يمر تاريخنا الوطني والعربي في مرحلة اختبار عسير، يتساءل المواطن خلالها بقلق عن البدائل الراهنة المفروضة والمرفوضة مع حالة الانزياح والانحراف التي يئن تحت وطأتها المشروع القومي. هذا المواطن وعلى امتداد ساحات الوطن الوطني والأمة يستنكر ويستغرب الحاضر العربي وهو يرى تحالف الإرهاب والرجعية والاستعمار ضد المصير والعيش المشترك، والتاريخ والمستقبل العربي.
يتألم العربي وهو يرى اللاعربي بارزاً قزماً هزيلاً رخيصاً أمام البترودولار، ويزداد ألمه وهو يرى ”العبودية” تتخبط لترسم مستقبلاً عربياً هشاً يحيل الأمل والطموح والتاريخ المشرق لحركة التحرر الوطني العربية الى قيادات، وأُسر، ومشيخات طالما وقفت ولا تزال عقبة أمام النزوع التحرري الوطني، والعربي، والعالمي، وهي تمضي اليوم في تآمرها على محو الذاكرة العربية العامرة بالقوة والأصالة.
حتى هذه اللحظة لم تتفق أي تحليلات قومية عربية على تسمية ما حدث في معظم أقطار الوطن العربي من تطورات وتحولات منذ عام 2010، واضطربت المصطلحات وتنافرت المفاهيم إلى حد كبير لم يوفر حتى اللحظة أية ممكنات للامساك بالنقطة المفتاحية التي يمكن أن تدخلنا إلى أبهاء الظاهرة، وتعرفنا على الطرق والمسارات التي يجب أن تسلك حتى نتعرف عليها ونمضي بعدها في رؤية بقية المشاهد والتجليات، وعبّر هذا الاختلاط بطريقة وأخرى عن الجفاء والمجافاة التي حصلت بين العقل والواقع العربي، وبين من يفكرون بهذا الواقع وبين معطياته وإشكالياته وتجلياته وتاريخ مأساته.
إن مستوى قدرة الشعوب على إدراك الخلفيات والمؤامرات لم تكن في البداية واضحة، كما أن الأنظمة العربية لم تكن تعلم حجم اختراقها، والمخفي في مجتمعاتها، وكان يظن الكثير أن لا قوة قادرة على خلق اهتزاز في نظام مصر أو ليبيا أو تونس أو سوريا…، كما كان هناك عدم معرفة كافية بطبيعة أنظمة الخليج وإمكانية أن يصل دورها لهذا المستوى من التآمر على أشقائها. وهذه عوامل ساعدت في المزيد من الاختراق، والتسليح وإنتاج العنف، والقتل وقطع الطرق والتخريب، كما لم يقرأ الدور التركي وطبيعته القراءة المطلوبة من حيث علاقاته الأطلسية والإسرائيلية، ورغبته الهيمنة ولعب دور شرطي المنطقة.
في زمن ”الربيع العربي” نتساءل: لماذا تقدم المشروع الوهابي ـ الإخواني خطوات متعددة ومباشرة ومتسارعة إلى الأمام في مواجهة المشروع القومي على امتداد الجغرافيا العربية، هل حصل ذلك في ليلة وضحاها، أم أنه كتحرك أتى مفاجئاً، أم أنه جاء كنتيجة لإفلاس المشروع الصهيوني التوءم لمشروع أعراب الخليج أدوات أميركا وإسرائيل، أم أن اللحظة التاريخية قد حانت لاستخدامه بعد أن استغرقت ثنائية ”الامبريالية واسرائيل” ما استغرقته في بنائه وإنشائه، أم أن الأمر ينطوي على عملية تبادل للأدوار يبدو فيه ـ بالشكل فقط ـ دور مشيخات البترودولار أهم وأعظم من دور الصهيونية العالمية؟!
من المهم أن نطرح هذه التساؤلات، لا لنبحث عن إجابات عنها، بل لنعيد قراءة التاريخ المعاصر والمرحلة والمخاضات التي أنتجت وضعاً عربياً تتسيد فيه دمى الخليج المشهد الذي لا يقتصر على تراجع الحركات القومية نصرة لفلسطين في مواجهة الكيان الاسرائيلي، وإنما يكاد يجري فيه تعميم حالة التآخي مع هذا الكيان التي يعبر آل سعود جهاراً نهاراً عنها بمواجهة أعداء افتراضيين آخرين لتمزيق الجغرافيا والديموغرافيا.
ليس مفاجئاً تقدم المشروع الوهابي على الصهيوني، ولم ينشأ بين ليلة وضحاها، ولم يأت تقدمه ليعوض إفلاس توءمه، بل يسير المشروعان على التوازي، وإذا كان برز خليج الأعراب في هذه الأيام كمنصة للحرب والهجوم على الأمة وضدها، فإنه كان على الدوام المنصة لكل حروب إسرائيل والغرب وأميركا منذ تم إنشاء تلك الكيانات القبلية الغارقة في الجهل والانحطاط، وهذا هو التاريخ يحدثنا بذلك منذ أحداث الدرعية الأولى مروراً بحملة محمد علي على الوهابيين وصولاً إلى عبد الناصر واستجداء ملوك آل سعود الأميركي لغزو مصر وتمزيق سورية والقضاء على العراق.
والحال كذلك، فليس من الإنصاف أن نتحدث عن هذه الوقائع، مقابل تجاهلنا الأسباب التي جعلت الوهابيين والأعراب ”كأدوات” يتقدمون، وما كان لهم ليتقدموا لولا انكفاء القوميين أو انشغالهم، ولولا أنهم مرروا ـ وإن على مضض ـ صوراً مؤذية تحت ضغط الحاجة للمال النفطي القذر الذي كان يقع واجب حمايته واستثماره وتوظيفه على القوى التقدمية العربية مجتمعة.
أولئك الأعراب هم الآن ما زالوا في المهمة ذاتها يدمرون الفكر العربي الذي يمكن أن يؤسس إلى عقيدة جامعة، وقد وقفوا منذ تاريخ الاستقلال العربي عن العثمانيين والأوروبيين ضد الرابطة القومية عند العرب، وهي بالأصل شعور راسخ في الوجدان الجمعي العربي لكن قاوموه بادعاء الفصل بين الدين والدولة. والقومية العربية في جذرها الواقعي كحقيقة موضوعية تمثل حركة تحرر للعرب من كافة أشكال الاستعمار والتبعية ولأنها تحولت هذه القومية إلى لاحمٍ مصيري بين أبناء الأمة الواحدة خشي منها الحلف المعادي وسخّر عملاءه لكي يقاوموها قبل أن تصل بالعرب إلى تحقيق الدولة القومية الواحدة على غرار دول العالم، وهنا يصبح المشروع الصهيوني على قيد الزوال، والوجود الاستعماري برمته سيزول من أرض العرب.
ولهذا تم تسخير العملاء من السعودية وقطر…، ومن الدول الإسلامية التي تسير في الركب الصهيوأميركي حتى يضعوا الإسلام السياسي بديلاً روحياً عن الإسلام الصحيح، وحين نراجع في تاريخ ذلك الزمان سنجد أن عرباً عملاء وافقوا على اقتطاع أرض عربية وإعطائها للمستعمرين والأعداء، ومسلمين يدّعون الإسلام ويفرطون لعدوهم بالمقدسات الدينية وفي طليعتها القدس.
وهنا أصبحنا أمام ظاهرة خطيرة من اللاوطنية ومن وقاحة العمالة، فالعملاء الذين ما زالوا منذ تاريخ الاستقلالات العربية حتى الآن يحطمون الوعي القومي الصحيح، والرابطة القومية الصحيحة، والإسلام الإيماني الصحيح، هؤلاء الذين من المنتظر منهم أن يجلبوا إلى الشعوب العربية، الحرية والديمقراطية والسيادة والاستقلال. نعم حرية العرب من عند إسرائيل وأميركا وبريطانيا وفرنسا، واحتلال العرب من عند الدول العظمى التي تريد تطبيق العدل والقانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة التي تصر على حق تقرير المصير لكل شعب بإرادته الوطنية الخالصة وبدون أي تدخل في الشؤون الداخلية للأمم.
كنا في ما مضى من الزمن نتحدث عن مشروع نهضوي عربي، فأين كنا وأين أصبحنا؟! وهل تحول المشروع أم تحولنا نحن واختلفت طينتنا وجبلتنا نحن، أم أن التغيير في الموسم الربيعي المنشود أتى على طبائعنا وأصولنا وأهدافنا وعقولنا بعد أن عمق مواجعنا وأسال دماءنا أنهاراً وألقانا في البؤس والتيه؟!
كان المشروع القومي العربي الذي كنا ننشده مشروعاً تحريريًّا للأرض والإرادة والاقتصاد والقرار السياسي من كل أشكال الهيمنة الاستعمارية وتحرير الإرادة والقرار من الاستلاب والقهر، وتحرير الإنسان من الاستبداد والفقر، والتخلص من التبعية الثقافية للمركزيات الأوروبية على الخصوص ومن رسيسها أيًّا كانت ألوانها، ومن تبعيات أخرى تأتي على جذور الأصالة والهوية والشخصية العربية وظواهر الانتماء بمفهومه الأصيل العميق… وتحريرٍ للإعلام والمعلومات من حصرية التدفق عبر قنوات غربية صهيونية لا غير، وفي اتجاه واحد في أكثر الأحيان، ومن ثم تحرير أوسع للعلاقات والمصالح والتبادلات والثروات، وتحرير للشخصية العربية بصورة عامة مما يعوقها ويقمعها ويرهبها ويعوق انطلاقها وقدرتها على الأداء بإبداع، أي تخليصها من الجهل والإحباط والقمع والاضطهاد والجاهلية والأمية بنوعيها: ”عدم القدرة على القراءة والكتابة وأمية ثقافية أو معرفية عامة”…
إنه مشروع تحرري تحريري بالمعنى الروحي والمعرفي العميق، يشمل تحريراً للفكر والسلوك العربيين من رواسب وسلبيات وقيود وعادات وتقاليد وأنماط تفكير وعمل وسلوك وتعامل قديم ومعايير وقيم بالية أو دخيلة فاسدة، وينصب على تجديد للمفاهيم وتحديد للمصطلحات وفتح أبواب الاجتهاد وأبواب الحوار والمجادلة الحسنة باحترام، ونبذ للغوغائية ونهجها وسدنتها وللهمجية بأشكالها…
فقالوا لنا هذا هو التيه والسير وراء السراب، وعدلوا بنا عن ذلك المسار وعن تلك المسيرة لما قالوا إنه الواقعية والخير… وإذا بهم يزجوننا في التقزيم والتمزيق والتهديم والتشرذم والتشرد والموت وألوان من الطغيانية والتبعية والارتهان للغرب الاستعماري ولغيره من القوى لكي نستبدل ذلاً بذل وتخلفاً بتخلف وتبعية بتبعية…
كان المشروع الحضاري النهضوي القومي بنظرنا هو ذلك الذي يتركز أساساً حول موضوع الوحدة والعمل العربي المشترك والاستنهاض العربي العام في نهضة علمية معرفية اقتصادية شاملة متكاملة… مشروع ينصب على تحقيق تقدم علمي نظري وتطبيقي في مجالات مدنية وعسكرية، وعلى اكتساب الرؤية والقدرة على التكامل، والتعامل مع معطيات عصر الفضاء والمعلوماتية والهندسة الوراثية والأسلحة البيولوجية والنووية والعلوم المستقبلية مثل ”النانو” وسواه لتحقيق توازن مع القوى المعادية من جهة والاستجابة الحيوية الضرورية لتحديات العصر والعلم والمستقبل التقدم الحضاري من جهة أخرى…
لقد كان المشروع القومي من منظورنا نحن الذين تعلقنا به مذ كان عاطفة مشبوبة وحلماً متوهجاً في الوجدان وتطلعاً تبنى عليه الآمال والتطلعات كان: وحدةً تؤسس للقوة، ووعيا يؤسس للحرية، وحرية تؤسِّس للتحرير والإبداع والعيش بكرامة، وعدالة اجتماعية تؤسَّس على نظام يؤدي الغرض ويحقق صلابة البنية الاقتصادية واقتدارها.. وكنا كما قيل لنا ”حالمين واهمين مهرطقين…”
فما الذي آل إليه حلم الواقعيين اليوم؟ إنه حلم اجتماع الزواريب على التقاتل أو الاتفاق على إدارة التنازع… بجهل وجاهلية وعنتريات ”أهلية”. فهل هذا حلم وتطلع وأفق لشباب أمة يريد أن يقيم قوامها على أنقاض أحلام القوميين المنهارة؟!
لقد آل المد القومي إلى انحسار، والحلم القومي إلى انكسار، وآل الأمر إلى فئات وجهات وتنظيمات وسياسات قتالة، في ظل قوقعة قطرية تشكل صيغة اعتراضية على النزعة القومية والدعوة القومية معاً وحتى على الفكر القومي ذاته… قوقعة تحرسها أنظمة مدججة بقوةِ السلاح، ومؤسسات عربية ودولية تتدخل لتفرق وتمزق أو تميت، وتحالفات واتفاقات حتى مع الأعداء على الأشقاء، واستعداد للتعاون مع الشيطان ضد الشقيق والأخ، وتفعيل مبدأ السيادة ”الأنا المتورمة أولاً” في وجه كل توجه أو أداء أو قرار قومي حكيم قويم سليم، واستكانة أمام التدخل الأجنبي المباشر وغير المباشر وأمام أشكال الاحتلال المموه بشكليات سيادية كرتونية مزخرفة، بل استجداء ذلك التدخل واستدعائه ومناصرته وتمويله للفتك ببعض قوى الأمة ليأتي من بعد دور القوى المتبقية منها، كل حسب وقته… وتحويل جامعة الدول العربية إلى دثار وستار للاستعمار.
فإن ما نعيشه من أوضاع مأساوية تنذر بمزيد من الكوارث والمواجهات الدامية وتضع البعض منا أمام اليأس والاستسلام أحياناً، وتثقل كاهل الكثيرين بالهم والإحباط والبؤس، وتترك شريحة لا يستهان بعددها، تعطي ظهرها للواقع وللحلم والأمل والهدف وحتى للمبادئ الخلقية والقيم القومية والوطن الضيق، وتقول نقبل بما يُعطى لنا من فتات… فإن التصدي لذلك كله بمشروع طموح خلاق، بواقعية وتصميم ورؤية تتكامل بجهد الجميع، لم يعد منه محيص وليس له بديل… ولا يبدو أن العاملين في حقل السياسة المهلكة اليوم من ”سلطات ومعارضات” ومتعيشة على هامش السلطات والمعارضات، يمكنهم أن يسيروا في طرق آمنة توصلنا إلى أمن من جوع وخوف، فضلاً عن التقدم والنهضة… وما نعيشه اليوم ينذر بأن الآتي سيكون أكثر من كارثي بكل المقاييس.
إن من المؤلم أكثر وأكثر في وضعنا الراهن أن المعنيين لا يشعرون بالقلق الايجابي حيال ما يجري، وأننا نخوض في الدم وكأننا نخوض في الماء، ونتفرج على الحرائق ونقول إنها لم تأت بعد على كل شيء ولم تبلغ بعد البلدان المجاورة أو أنها لم تبلغ بعد بيتنا، على الرغم من رؤية شررها يقدح في كل ركن من أركان وجودنا.
إننا ننساق مع التيار من دون أن نشعر بالمخاطر التي ينطوي عليها الانسياق، ولا بقيمة الزمن الذي يمضي ويؤسس للكثير مما يمكن أن يكون نافعاً أو ضاراً، حسب استفادتنا من الزمن، ولا نكترث لضرورات التحرك بأقصى السرعة للجم الفتنة ومنع الكارثة واللحاق، إذا لحقنا، بآخر عربات قطار السلامة الذي يغادر محطاته متوجهاً بالبشر إلى مرحلة جديدة من عصر التقدم المذهل الذي نمر فيه.
نحن خارج حدود القلق الخلاق، أي خارج حدود المعرفة الواعية بالخطر والخير والشر، وخارج حدود المسؤولية الأخلاقية والوطنية العليا، وخارج حدود الشعور المؤثر بما يسبب الدمار والاندثار، وخارج دوائر التبصر بالخطر الناتج عن تجييش العباد في صفوف الفتنة… وتلك من أكبر السلبيات التي علينا أن نواجهها، فيما إذا أردنا أن نبقى لكي نتطلع بفاعلية وأملٍ وإيجابية إلى حلمنا بما كان مشروعنا القومي الحالم والتحديات التي تواجهه ونتخلص من المشروع الواهم الذي نخوض مخاضات الدم على طريقه، ولذا وجب التأكيد على من يخوضون في الدم ويتسببون في القتل والفتنة أن يتركوا فرصة للحياة والأحياء باستراحة يأخذونها ليرتاحوا ويريحوا.
معظم القوميين العرب يستفيقون اليوم على هذه الحقيقة الجارحة، ويلمسونها لمس اليد، بعد أن صحت أعينهم وعقولهم من وهم الثورات، التي شاركوا فيها واعتقد بعضهم أنها باب الخلاص من النظام الرسمي العربي الحاكم الذي أفرغ القضية العربية من مضمونها، واقتصر دوره على السهر على رعاية المصالح الغربية، واستكمال بناء جسور التطبيع مع الصهاينة، لكن هذا البعض وجد نفسه في زمن قياسي أمام مشروع نظام رسمي عربي جديد، لا يختلف عن سابقه في شيء سوى في مكوناته، التي حل فيها تحالف الظلاميين والليبراليين الجدد محل قوة الاستبداد المنهارة، مع فارق أن التحالف الجديد، الذي احتل مركز القرار في أكثر من بلد عربي، أطلق رياح الفوضى وراح يعزف على أوتار العصبيات النائمة، لإيقاظ الفتن والرجوع بالعروبة وثقافتها الحضارية إلى الأفق الجاهلي المغلق منذ قرابة خمسة عشر قرناً، وفي هذا المناخ تعود للقومين العرب ذاكرتهم، وتشتعل الأحلام في عيونهم من جديد، وتبدأ طلائعهم بالإعلان عن نفسها في هذه العاصمة العربية أو تلك، فهل سيكملون اقتناص الفرصة، أم أن تشوهات العروبة وعللها باتت أكبر من كل الأحلام!
ولأن التاريخ سلسلة متعاقبة متواصلة لا تنقطع من الأحداث، قوانينها التقدم والانحناء والمرحلية، ولكل مرحلة بصمة تمنحها خصوصيتها، فإن إعادة النظر في الفكر القومي العربي، ينبغي أن تنطلق من وعي طبيعة المرحلة التي هيأت للانتقال لمرحلة الثورات العربية، من خلال التعرض للظروف التي حكمت مجرى النضال الوطني التحرري العربي في العصر الحديث، وبشكل خاص التلازم والوحدة في ذلك النضال، وتداخل وتشوش المبادئ والأفكار التي رفعتها أحزاب وتنظيمات الحركة الوطنية العربية.
والأهم هو الابتعاد عن سياقات تقديم أجوبة متغايرة عن أسئلة الحاضر، والبحث في إشكالية التقدم والخلاص من حالات الاستبداد المقيم في البلدان العربية، وعدم الركون إلى الدعوات القائلة بخصوصية الهوية، القائمة على ميتافيزيقا التمركز المضاد للتمركز الغربي على الذات، التي تضع الذات في مواجهة مع الآخر، والبحث عما هو كوني ومشترك معه.
وقد برهنت التجارب القومية أن دعوات التميز والخصوصية كانت تخرج عن عقلية الإلحاق والقطبية، مع التسليم بأن عالم اليوم لا يمكن تغييره بالخروج منه، وأن المطلوب هو العمل على تعميق القيم الكونية المشتركة للإنسانية، في حق الشعوب والعربية في الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان والتنمية والتعاون المشترك والمتكافئ. وإن كان ثمة خلاص من حالة الحاضر المتردي والمنهار، فلا يمكن أن يتم بالهروب منه إلى الأمام ولا إلى الوراء.
اليوم هناك حاجات ضاغطة لكي نبدأ الآن، هذا السياق والنسق والمسار النضالي ـ المعرفي، لكي لا نبقى في دوامة هذا الصراع والتأزم، وهنالك دعوات شعبية حارّة تنطلق من هنا وهناك لضبط وعقلنة هذا الواقع العربي واقتلاع لا عقلانيته، ووقف الانحدار والتراجع في مساراته، وهي دعوات ترنو إلى تحديد نقاط بداية استنهاضية وحافزة، والتوحد في مشروع قومي يستمد معانيه من التاريخ المباشر للأمة تتأسس عليه الانطلاقة والأفكار الجديدة المفترضة بعد السير في عملية تفكيك تاريخية لهذا الانحسار والانسداد وأسبابه واستنباط مخرجات استنهاضية مغايرة، ومراجعة كافة محطات الإعاقة والتثبيط، وافتتاح حقل جديد في النقد والمراجعة الخلاقة، وخلق آفاق جديدة للتجاوز، وليس هذا بعسير أو مستحيل إذا توفرت الإرادة الحقيقية لذلك، والفهم التاريخي الخلاق للمرحلة وضروراتها لدى قوى وتيارات الأمة.
وليس فيما نقول وما ندعو إليه دعوة أو صيحة مثالية وتجريدية وشطح سياسي من وحي الخيال ورومانسية الفكر والتفكير، وإنما هو في صميم عملية البحث عن آفاق جديدة للتجاوز، ولأنه يتعذر على أي أمة أن تبدأ دون هذه النقلات والصحوات والتحولات النوعية في فكرها وواقعها، ففكر النقد والمراجعة هو من قاد الأمم إلى معرفة ذاتها وإمكانياتها وهو من قادها إلى دروب النهضة والتقدم ووضعها على سكة التاريخ وفي صميمه بعد أن مرت بمخاضات وتعقيدات وتراجعات كبيرة.
المطلوب اليوم مشروع وطني قومي تنهض به القوى الوطنية والقومية والتقدمية والإسلامية المتنورة لإنتاج فكر عقلاني عروبي ديمقراطي يحمل رؤيته وانفتاحه ومحبته وتسامحه بعيداً عن الانغلاق والتعصب، وهو مشروع شعبي، ولن يكون إنتاج أنظمة رسمية بل إنتاج تيارات ونقابات ومثقفين وأحزاب ومجتمعات أهلية ومتنورين إسلاميين، يعيد عقلنة الشارع العربي والنهوض بوعي طبقاته المستغلة فكرياً، واختراق بناه المغلقة، والمستلبة في تفكيرها ووعيها.
إنه مشروع بعث عصر أنوار جديد مجتمعي ووطني وقومي وكم نحن بحاجة إلى التنوير الجديد، إنه الوعي الجديد… إنه الوعي البديل.
ويمكن القول بأن إعادة النظر في الفكر القومي، تستلزم الابتعاد عن أفكار وطروحات أصحاب المشاريع النهضوية والدعوات الوحدوية، الذين تمادوا في إطلاق التعميمات والأحكام التي كانت تدور في رؤوسهم، وحاولوا فرضها على الواقع المتعين لكل البلدان العربية، وذلك على خلفية أن انهيار وخراب الواقع لا ينصلح ولا يستوي إلا إذا انسجم مع الحلول التي سكنت رؤوسهم، وبالتالي يتمادون في الغوص في فعل التسمية ومنطق التعميم، اللذين لم يفضيا إلا إلى تصور واقع متخيل، أو بديل افتراضي، عن واقع البلدان العربية المتعين وإشكاليات ومشاكل كل بلد منها.
فالقومية العربية مازالت فرس الرهان الذي يمكن الوثوق به، ومشعلها الذي سطع لهيبه في أواسط القرن الماضي، مازال جمرة تحت الرماد، ومثلما استطاع روادها الأوائل في ذلك الزمن إطلاق الطاقات الكامنة في الأمة من أجل الوحدة والتحرر ومناهضة النفوذ الاستعماري ومواجهة الكيان الصهيوني، فإن النخب القومية الحاضرة التي جربت مرارة الردة في العقود الأخيرة، تستطيع اليوم أن تلمّ شتاتها وتعيد صياغة خطابها السياسي في ضوء ما يجري اليوم في تونس وليبيا ومصر، واليمن وسورية.