كان يتمنى أن يعود إلى مسقط رأسه في فلسطين، وجسَّد هذه الأمنية في مئات الأناشيد التي صدحت بها حنجرته، وترددت أصداؤها في أركان الدنيا الأربعة، وطبقت شهرته الآفاق كابن قريته محمود درويش، وصنع كل منهما على طريقته الخاصة وطنا في المنافي، يتنقَّل في الوجدان الإنساني حيثما كان، في تحد لكل ما بذله الاحتلال الصهيوني من محاولات لمحو هذا الوطن، وتهويده.
غرِّيد الثورة الفلسطينية «أبو عرب» الذي رحل منذ أيام قليلة في المنفى، وجد من يحقق حلمه بالعودة ولو بصورة رمزية، تبعث برسائل بالغة الأهمية لكل من يساوم على حق العودة، أو يحاول أن يتاجر به، ولتحقيق هذا الحلم، قررت المحامية نائلة عطية الناشطة في مجال حقوق الإنسان في فلسطين العام 1948، (أمس) الجمعة، القيام بتخليد ذكرى شاعر الثورة الراحل (أبو عرب) على أرض قريته الشجرة، بإقامة صرح تذكاري للراحل على أرض قريته المهجرة، على نفقتها الخاصة. وكتبت المحامية عطية على الصرح التذكاري: «هنا في قريته الشجرة ولد، ومن هنا هجر، الشاعر الوطني إبراهيم محمد صالح (أبو عرب) في نكبة عام 1948. هنا دفنت روحه، وجسده في مخيم حمص للاجئين الفلسطينيين». وما أبلغ ما كتبت نائلة، فالجسد المهجر قسرا ووري الثرى في مخيم حمص، أما الروح المتحررة من كل سيطرة، فترحل إلى مسقد الرأس، وتتخلد ذكراها هنا!
نائلة، ابنة فلسطين، تقول إنها قامت بهذه المبادرة كخطوة عملية أولى على طريق تطبيق حق العودة، واعتبرت ذلك الصرح هدية من كل نساء فلسطين إلى روح الشاعر الراحل أبو عرب والى كل أبناء شعبه الصامدين على أرضهم شوكة في حلوق من حاولوا إبادتهم!
نائلة رأت في إقامة الصرح، واجبا وطنياً، وأنه «بداية لفعاليات تخليد ذكرى الراحل الذي غنى لفلسطين حتى وهو على فراش الموت، وكان يتمنى ان يدفن في تراب الشجرة، ولأن طموحه لم يتحقق له ذلك الآن، فقد قررت من خلال هذه الخطوة الرمزية، إقامة النصب في ‹الشجرة› حتى يحين موعد إعادة رفاته الى وطنه»!!
نائلة لم تكن وحدها في تمكين أبو عرب من ممارسة حق عودته إلى الشجرة، بل رافقتها كوكبة من أبناء قرى فلسطين: المحامي مصطفى الصح من عرابة البطوف، ونادر زريق من عيلبون، والصحفي وليد ياسين وتوفيق حصري من شفاعمرو.
فلسطين اليوم، إما محتلة، أو متهمة، أو مخذولة، ولكنها استعصت على كل من حاول ان يحولها إلى رماد، وبقيت حية في نفوس أبنائها، فلم ينسوها، حتى تلك الأجيال التي ولدت في الشتات، فلم يروها، ولم تطأ أقدامهم ثراها، لم يزالوا يهتفون باسمها، ويحفظون أسماء قراهم ومدنهم عن ظهر قلب، فهي «قائمة» في أرواحهم حتى ولو أزالها المحتلون من على الأرض، أما تلك الأجيال التي اكتحلت عيناها بالجنة المفقودة ورحلوا عنها مكرهين، فهي مقيمة في وجدانهم، حتى أن أحلامهم لا تتم إلا فيها، وما أبلغ ما قاله الحاج أبو حسين الصمادعة، المقيم في مخيم الجلزون، بالضفة الغربية المحتلة في فيلم وثائقي: كل أحلامي بالبلاد (يقصد قرية صبّارين المدمرة / حيفا) ما حلمت ولا حلم هان !!
يمكنهم احتلال الأرض، وتشريد أصحابها، وخذلانهم، فهل يستطيعون مصادرة أو مراقبة أو مطاردة أحلامهم كـ (أرض محررة)؟!