في مقابلته الاخيرة مع احدى الصحف العربية أشار الدكتور عبدالله النسور الى أن "الحكومة” لم تستغل حالة الضعف التي يعاني منها "الاخوان المسلمين” في الاردن اثر التطورات الاقليمية (المقصود ما حدث في مصر)، وهو المعنى الذي اكدته تصريحات عديدة جاءت في سياق الرد على دعوات انطلقت من هنا وهناك "لاقصاء” الجماعة ومعاقبتها، واستنساخ النموذج "المصري” بحجة أن "اللحظة” أصبحت مناسبة، اقليمياً ودولياً، لوضع "نهاية” لصعود الاسلاميين ومنع وصولهم الى السلطة.
للانصاف، تصرفت الحكومة في هذه المسألة تحديداً بمنطق "الدولة”، فالاخوان كغيرهم من التيارات السياسية الفاعلة جزء من "الدولة” التي هي حاضنة للجميع، ومن غير المقبول أن تمارس الدولة مع مكوناتها - والمعارضة جزءا من هذه المكونات - منطق "العزل” او الاقصاء، أو ان تقف معها موقف "التحدي”، وقد لاحظنا كيف يمكن ان تدفع الدولة - أية دولة - ثمن انجرارها الى خصومة أي طرف فاعل فيها، وكيف تتحول عندئذ الى جزء في معادلة "الخصومة” بدل ان تكون عنواناً "للتوافق” وعلى مسافة واحدة من الجميع.
هذه - بالطبع - فرصة للتذكير بضرورة استعادة الدولة لهيبتها، فهيبة الدولة لا تفرض بالقوة، ولا بالقانون ايضا، وانما تتحقق حين يشعر الناس بالعدالة والأمن، وحين تتوافق ارادتهم مع ارادة القرارات المتعلقة بادارة شؤونهم، وحين يصبح "الفاعلون” في حقل السياسية جزءاً من الدولة، والدولة اطار يضبط حركة الجميع، وعندها تتحول العلاقة بين الدولة ومكوناتها من دائرة "الاكراهات” السياسية والاجتماعية الى دائرة "الخيارات” المفتوحة على السماحة والتقدير المتبادل، وعلى الحرية والامتثال الحقيقي ايضاً.
الحكم - اذن - على عافية الدولة يستند في الاساس الى "قدرتها” على خلق حالة من "الانسجام” بين مكوناتها ومع محيطها ايضاً، اما احساسها بالانتصار على أحد مكوناتها أو انجرارها الى "فخ” التقسم وتوظيفه سياسياً أو اجتماعياً للسيطرة على المجتع، فهو أقصر طريق "لافتقاد” الهيبة واختلال الوزن، وغياب "التوافق” بين القوى السياسية المناط بها "ضبط” ايقاع الناس وتحسين المزاج العام وتعزيز "مشروع” البناء للدولة، بدل الاعتذار عن المشاركة فيه، أو محاولة "هدمه” واعاقته.
في هذا السياق، من واجبنا أن ننتبه الى ان مشروع "بناء” الدولة في عالمنا العربي يتعرض لخطر التفويض والانحراف، والى ان "حالة” الانقسام بين الدولة والمجتمع تحمل بذور "الفشل” للاثنين معا، وبالتالي فان من الخطأ استنساخ مثل هذه التجارب أو محاولة "تقمصها”، لا اتحدث هنا - فقط - عن "ثنائيات” الدولة والاسلاميين، ولا عن الصراعات على الهوية داخل المجتمع، ولا عن اجواء الكراهية التي يريد الاعلام "المجنون” ان يؤسس لها داخل مجتمعاتنا، ولا عن المواجهات بين اتباع المذاهب وداخل المذهب الواحد، ولا عن "الخيبة” من النخب التي اشغلها الصراع على "السلطة” عن مسألة "الدولة” وضرورات الحفاظ على مكوناتها، وانما أشير فقط الى ان لدينا فرصة ثمينة لتجاوز كل هذه الاشكاليات، وذلك استناداً الى عاملين: احدهما ان بلدنا، تاريخياً وسياسياً، كان طارداً لمثل هذه "الثنائيات” والاشتباكات، وان الوقوع فيها هو محاولة "لمعاندة” سيرورة التاريخ والسياسة معاً، وبالتالي فان أي دعوة لفرض هيبة الدولة بالقوة، أو "اسكات الخصم” بالاقصاء، أو اخضاع المجتمع بالتخويف من الانقسام لن يكتب لها النجاح أبداً.
أما العامل الثاني فهو ان تجارب الآخرين من حولنا تقدم لنا "بروفات” مجانية لما يمكن ان نفعله ونتجنبه، وباختصار شديد فإن ما يصلح لنا هو "التوافق” فقط، واعتقد ان الاطراف الفاعلة في حياتنا السياسية تدرك هذه الحقيقة حتى وان غابت عنها في لحظات الاحساس بالانتصار أو الانكسار، ومن واجبنا ان نغذي هذه التوجه من خلال البحث عن مزيد من "المشتركات” والجوامع والتسويات، وان نأخذ مسألة "بناء” الدولة ومشروع اصلاحها بشكل جدي، بحيث لا نراهن - مثلا - على ما حدث حولنا في الدفع "للتغطية” على أوضاعنا وتجميد مسيرتنا، وألا نأخذ منها مبرراً "لفرض” الامر الواقع على طرف ما بحجة ما لحق به من ضعف اقليمي، وانما لا بد أن نقتنع تماماً بأن بلدنا يمتلك الفرصة والقدرة على انتاج نموذج مغاير "للدولة” الناجحة، الدولة التي تستطيع أن تنسجم مع ذاتها ومكوناتها ومع محيطها ايضاً.