من المفارقات التاريخية،ان كارل ماركس كان يمنّي النفس ان يحقق حلمه الاشتراكي من بؤر الرأسمالية العالمية، خاصة من قلب بريطانيا لكن رياح الثورة هبت من حيث لا يتوقع فكانت من روسيا التي كانت اقرب الى النظام الاقطاعي من النظام الرأسمالي.
أسوق ما سبق،نظرا لتداعيات الموقف في مصر ومن قبلها تونس،التي هبت منها رياح الثورة والتغيير، وكان الجميع يعتقد ان الصاعق موجود في مصر على الخصوص، خاصة بعد لعبة الانتخابات التشريعية قبل حوالى بضعة اسابيع، وما جرى فيها من تزوير واقصاء لكل مكونات الشعب المصري الذي يزخ تحت قوانين الطوارئ منذ حوالي ثلاثة عقود.
انفلونزا التغيير تهب على مصر،التي استشرى فيها الفساد الذي اصبح يمارس علانية من قبل النخب السياسية والبيروقراطية، والتسلط وتغول الحزب الحاكم، واصبح النموذج التونسي مصدر الهام ليس فقط للمصريين، بل لكل الشعوب العربية التي تغلي على صفيح ساخن، والتي ملّت من الانظمة والحكومات التي تحكمها وتتحكم فيها، وملّت من حالة الزعيم العربي الخالد، الذي لا يفنى ولا يموت، بل يتحول الى شكل آخر. وان الثورة والتغيير ممكن حتى لو كان في اي بلد عربي، لان هناك جيلا من الشباب قد ملّ هو الاخر من ديمومة القهر والكبت وخنق الحريات والاحكام العرفية المعلنة وغير المعلنة، لذا فليس من الغرابة بشيء حين نرى ان معظم من يقوم بالمظاهرات والاحتجاجات هم من الشباب والشابات، ولأول مرة نرى ان النخب السياسية والقيادات الحزبية والنقابات، تركض وراء نبض الشارع العربي الثائر الرافض لسياسة الامر الواقع، الذي سبقها الى الفعل الحراك السياسي والاجتماعي، ويردد الصيحات بغضب مناديا بالتغيير وهو ما اشارت اليه صحيفة نيويورك تايمز حين قالت "ان الرئيس اوباما يتصارع مع قوى متقلبة وعدوانية بصورة محتملة وان تلك الشعوب قد قامت بإعادة ترتيب المشهد السياسي في المنطقة".
واللافت في الامر، ان هذا التحول في موقف الادارة الامريكية تجاه الاحداث المتسارعة في كل من تونس ومصر ولبنان واليمن وغيرها من العواصم العربية القابلة للانفجار في اية لحظة، قد دق ناقوس الخطر لديها، لذا سارعت وزيرة الخارجية هيلاري كلنتون الى الانتقاد وبعنف للقادة العرب، بسبب طرقهم واساليبهم الاستبدادية،وذلك قبل يوم واحد من سقوط نظام ابن علي في تونس، وفي كلامها اشارات ودلالات يمكن من يلتقطها، ان يحزم حقائبة استعدادا للفرار او الرحيل.
ان تصاعد الاحتجاجات بمصر، بشكل لم يسبق ان شهدته مدنها ومحافظاتها منذ سنوات، ينذر ان الشعب المصري قد استلهم التجربة التونسية في كسر حاجز الخوف والارهاب البوليسي، وان هناك خلط في الاوراق والحكام في المنطقة سيتم عاجلا ام آجلا، وهو ما تنظر اليه الولايات المتحدة كما ذكرنا بعينيين، كل واحدة منهما لها قراءة خاصة للأحداث، فلا نستغرب اذن تسارعها في تسفير داهيتها الدبلوماسي جيفري فيلتمان الى تونس، للتعبير عن دعم بلاده للقوى المساندة للديموقراطية، في خطوة تشبه "المتسوق الخفي" الذي يلاحظ مباشرة وعلى ارض الواقع ليبني سياسة جديدة على معطيات الواقع الجديد. وهي خطوة ليست بريئة تجاه الفرانكفونية، بوضع قدمها بدلا منها في الضفة الجنوبية من البحر المتوسط.
ابن علي قال في اواخر ساعاته، انه الان فهم الشعب التونسي، والحزب الحاكم في مصر يقول في بيان صدر عنه جراء الاحداث في البلاد "ان صدره يتسع لمطالب الشباب ويتفهمها". اما اورن ميلر زميل السياسة العامة في مركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين فيقول"ان التحدي الذي يمثل امام الادارة الامريكية الان هو ان تجد التوازن الصحيح بين تحديد الولايات المتحدة مع كل التغيرات ومن ثم تقويضها وبين عدم ايجاد سبل لتغذيتها بما فيه الكفاية لكنهم لا يعرفون حتى الان كيف لهم ان يفلحوا في ذلك".
انفلونزا التغيير قادمة، والشعوب العربية كسرت حواجز الصوت والقهر والرهبة،واصبحت اجسادها تحترق بفعل عوامل داخلية، تكفي لإشعال الشرق الاوسط برمته وهو القابل للاشتعال اصلا، وهي رسالة منها الى حكامها بان من يحتمي بأمريكا فإنها لا تحميه، ومن يحتمي بشعبه فانه يحميه،ولتستعد بعض العواصم لاستقبال زعماء وحكام جدد على اراضيها لان هدير محركات طائراتهم الخاصة وسبائك البنك المركزي جاهز للإقلاع في اية لحظة..
الم اقل لكم ان غضب الشعب العربي اعلن ان الربيع قد صحا.