بسام الياسين
الانسان اسير ماضيه وطفولته المبكرة،ومخزون ذاكرته العميقة من ذكريات منسية في اللاوعي.مخبوءات تفضحها زلات اللسان وشطحات القلم،وتكشفها الاحلام ،والسلوك المنفلت ساعة الغضب.فعندما تضعف رقابة الوعي،تختفي الكوابح الاخلاقية تطفو الرغبات المحرمة،وتنطلق العواطف الهدامة والميول العدوانية من عقالها لتعبر عن نفسها بالشتيمة اللفظية او بفعل مادي باستعمال السلاح الناري،عندئذ ترفع النفس استارها وتحدث عن اخبارها ،خاصة حينما تقترب شرارة الانفعال من مستودع البارود الكامن داخله.
*** ردود الفعل السلبية عند الشخصية المهزوزة، تختلف بين شخص وآخر،اذ تتراوح بين الهرب على طريقة الارنب او الانكماش للداخل كالسحلفاة اوالهجوم الوحشي كالذئب.تصرفات متباينة يعزوها علم النفس التربوي و الاجتماعي والسلوكي لتجارب طفولية مر بها الشخص المأزوم،وحوادث اسروية جارحة عصفت بعائلته ثم استقرت في لا وعيه،و اخذت تنفت سمومها بداخله وتتحكم بتفكيره،و تسيطر على سلوكه.فالميول العدوانية متعددة الاشكال بعضها يوجهه الشخص لداخلة في محاولة لتدمير الذات كادمان المخدرات والكحول والافراط في يالتدخين ، وبعضها يوجهها للغير كالنميمة،النفاق،زرع الفتنة،الدس،الوقيعة،الشماتة،نصب المكائد لزملاء العمل،الايقاع بالاصدقاء والخصوم على السواء بفخ التآمر، كتابة التقارير السرية،التطاول على الآخرين.
*** الفلاسفة اختلفوا في الذات الانسانية اللغز،وخاصة " الانا" العميقة المحيرة.كارل ماركس رائد المادية ادعى انها تقوم على المصلحة،في حين اعادها نتشيه الالماني الى "السيطرة" ـ القوة تصنع الحق ـ ،فيما يرى سيجموند فرويد عالم النفس الشهير ان "الانا" تخضع بالضرورة الحتمية للدوافع اللاشعورية الجنسية.هذه النظرية اخذت مجدها الكبير،رغم محاولات تلاميذه من بعده التقليل من اهمية الدافعية الجنسية،وابتكار نظريات جديدة تقوم على اعطاء الفرد بُعداً اجتماعياً من خلال "الانا الجمعية،الا ان الفرويدية ما زالت حاضرة حتى اليوم.
*** النظريات النفسية والاجتماعية كافة تجمع ان عدم انسجام الشخص مع ذاته ومجتمعه يعود الى اضطرابات عميقة في شخصيته تتدرج من اكل لحوم الناس بالنميمة والطعن فيهم بخنجر العيب لتصل الى اقتراف الجرائم الجنائية، كما فعل قابيل باخيه هابيل حسداً،واولاد يعقوب باخيهم سيدنا يوسف بالقائه بالجب غيرةً للتخلص منه. ومع تطور الحياة والتعليم لجأ اصحاب النفوس الشريرة،الى التذاكي باسلوب التقنع باقنعة الوقار والسكينة والحكمة ولبس لبوس الوطنية والتدين و الاخلاق الفاضلة واستعمال مساحيق الثقافة والعلم والعمل الخيري لتحقيق مآربهم، الا ان كلمة واحدة تفضح سترهم،و تحرق اقنعتهم .فمعدن الانسان سينكشف مهما بلغ من الدهاء.
*** ما نود قوله:ان الشخصية المريضة عامل اعاقة في المجتمع لانها شخصية مُعَوقة،لافتقارها للحس الاجتماعي،وتميزها بضعف "الانا الاخلاقية" الذي يندرج تحتها الكثير من الجواسيس و الحرامية والمطبعين ومزدوجي الشخصية،والعدوانيين المجرمين،والكاذبين وغريبي الاطوار،والشاذين،وصيادي الفرص على حساب الاخرين،والباحثين عن جوائز الترضية والشرهات. هؤلاء فوضويون في السياسة،ينزلقون بسرعة في الخيانة،ولا يتورعون عن بيع مبادئهم والمتاجرة بالقيم والكذب على الذات و الاخرين من اجل الخلاص الفردي،وبالتالي فانهم يطرحون مشكلة عويصة في الطب الشرعي والنفسي والقانون والسياسة، خطورتهم تتجلى عندما يتسلم احدهم وظيفة قيادية،حيث يشكل مع مَنْ هم على شاكلته الخاصرة الرخوة للوطن.هنا تتجلى عبقرية الشاعر بشار بن برد في حكمته القائلة : " قد ضل من كانت العميان تهديه".
*** جُلَّ هذه الشريحة تعاني من خواء فكري وثقافي وسياسي،لكنهم يتقنون فنون الكذب في الادارة،و الهوبرة في السياسة،والترويج لشيطان الفتنة في المجتمع،و يتبنون افكار ابا جهل المنغلقة في الحوار،و ذهنية ابو لهب الخشبية في التنظير،تراهم مثل حبة البوشار العالقة في الحلق لا تقتل بل تعيق التنفس،وتشبه حصاة في الحذاء تزعج صاحبها لكنها لا توقف حركته.لهذا فان اول خطوات الاصلاح قطع شأفتهم ،وتجفيف منابعهم .
*** مشكلتنا اليوم اننا نعاني امراضاً تتمثل بثقافة جديدة اخذت تفرض وجودها علينا، لذلك يجب استنباط ثقافة مضادة للثقافة السائدة، ثقافة التطاول على الدولة،وعقلية الزعامة ،والتطاول على القانون وخرقه، والعهر الاداري بكل اشكاله ومسمياته ،و تدمير البنية التحتية،واحتلال الارصفة،وفوضى المرور،وتحصيل الحقوق بالقوة،والجرأة على المال العام بسبب غياب القوانيين الرادعة،ومئات "السلبيات الحرجة".اليس قطع الطرق اعلى درجات الاهانة للدولة و اسقاط هيبتها. ان عدم الاعتراف بهذه الحقائق مكابرة ضد العقل والمنطق وكبيرة من الكبائر.فكل واحد فينا يعرف عشرات الوقائع عن تلك النماذج الشائهة. و الا ما معنى التقارير الطبية الرسمية التي تؤكد ان اكثر من مليون ونصف مريض نفسي ينتشرون بين ظهرانيينا.
*** امام هذه الحقائق الدامغة ،لا مناص من الاعتراف باننا نعيش اسوأ اوضاعنا الاجتماعية،فالكل يشعر بالظلم وانه مظلوم ومهضوم الحقوق.هذا الأحساس يوّلد الشعور بالحقد والرغبة بالانتقام،وليس هناك اشد خطورة على المجتمع والدولة معاً من بيوت تبنى على هذه القيم المدمرة.فالجميع يجأر بالشكوى لغياب العدالة الاجتماعية وانعدام تكافؤ الفرص، بالعمل والتعليم.ناهيك ان المسؤول يغض الطرف عن تطبيق القانون ويتلاعب بنصوصه ويتحايل عليه،ويميز "جماعته" على غيرهم،فيما النائب المكلف بالمراقبة تخلى عنها ،وتراخى في التشريع وتوقف عن ملاحقة الفاسدين،وراح يركض خلف مصالحه ويمارس استعراضات صبيانية لكسب الشعبية. ما ينطبق على المسؤول والنائب ينسحب على الجميع،حتى اصبحنا امام منظومة فساد متجذرة ضربت اطنابها في كل المواقع.
*** مفتاح السر، جملة واحدة قالها الفيلسوف سقراط الذي امضى حياته باحثاً عن الحقيقة والخير،و تجرع كأس السم بيده دفاعا عن مبادئه : "اعرف نفسك"، فمعرفة النفس هي الخطوة الاولى لتطهيرها،و البوابة المفضية لمعرفة الكون.اللافت ان بعض الناس يريد اصلاح العالم والوطن بينما هو ذاته بحاجة الى اصلاح وبيته آيل للسقوط ..ذات الجملة السحرية قالها الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز عندما سمع ان ابنه اشترى خاتماً بألف درهم فكتب إليه: إنه بلغني أنك اشتريت خاتما بألف درهم، فبعه وأطعم منه ألف جائع، واشترِ خاتماً من حديد بدرهم، واكتب عليه :(رحم الله امرأً عرف قدر نفسه.( اذاً،فالولد حصيلة تربية ابويه ومدرسته وبيئته و الاصلاح يبدأ من الذات والبيت. كذلك الادارة تقول قواعدها الذهبية: أَعطني مديراً ناجحاً أُعطيك مؤسسة ناجحة.و اعطني قلةً من الشرفاء اقضي لك على جيش من الفاسدين
*** مراجعة الذات بين آونة و اخرى ضرورية كمراجعة الطبيب الباطني للكشف عن السكري وارتفاع ضغط الدم وباقي الامراض الخبيثة الكامنة في الجسد،مع ضرورة مجاهدة النفس من اجل محو الصفات المذمومة،وغسل الادران المتقيحة،وقطع العلائق مع كل ما هو ضار بالذات والغير و الابتعاد عن تبرير السلبيات والبحث عن مشاجب لتعليق النقائص .الطريقة المثلى للخلاص والانتصار على النفس هي الجهاد فيها،فالنبي صلوات الله عليه وصف قتال الاعداء بالجهاد الاصغر بينما وصف مقارعة النفس بالجهاد الاكبر. ولا شك ان المجاهدة تقود صاحبها الى مدارج الصفوة رغم المتاريس التي تعترضه،وتلمع بداخله لوامع الحق في قلبه،وتكون نفسه مرآة صافية يرى فيها الوجود بجلاء. "أتحسب انك جرم صغير/ وفيك انطوى العالمُ الاكبرُ".
*** نستشف مما سلف ان ذروة العلاج لجم النفس الامارة بالسوء عن الركض خلف المال الحرام ومناصب الوجاهة واضواء الشهرة والزعامة الكاذبة، والاحتراب لاتفه الاسباب"مع ان الطموح الايجابي مشروع ومطلوب" ولا ينكره الا الكسالى،ثم اعادة الصلة بين الانسان وخالقه،وبث الحرارة في اسلاك الخط المقطوع بين العبد وربه الذي خلقه في احسن تقويم،ورد النفس الى منبعها الرباني.عندئذٍ سيشعر المجاهد بانه يمتلك تركيبة نفسية شفافة محلقة ،وسعادة داخلية عارمة لو عرف عنها الملوك لجالدوه عليها، لانه لا يسكن في جسده الترابي بل يسكن في ضميره النوراني،وتجده لسمو"الانا الاخلاقية"عنده ينحني تواضعاً للناس كسنبلة مثقلة بالقمح. اما على المستوى العام،العلاج في تطبيق القانون على الاقوياء كما البسطاء،وبسط العدالة وتوفير الكرامة للجميع .
*** ان ما حدث ويحدث يدل بالقطع على اخفاق الدولة بكل اجهزتها ومؤسساتها ورجالاتها و اعلامها لان كبار مسؤوليها "ذوي اللياقة النفسية العالية" ينظرون للمواطن كـ "عجلة احتياط" ""spare تستعمل عند الضرورة فيما الواقع يؤكد انهم هم الخاصرة الرخوة للوطن." وعجلة الاحتياط "المثقوبة" التي بات تبديلها ضرورياًعلى طريق لتسير العربة الاصلاح والتنمية.
مدونة الكاتب الصحفي بسام الياسين