أما وقد هدأت النفوس، وخفت صوت الحناجر، وأجريت الانتخابات النيابية، وتشكلت حكومة جديدة، فلعل الوقت أصبح ملائما أكثر لتقييم التجربة الأردنية منذ بداية الثورات العربية. وهي تجربة تتفق الحكومة والمعارضة على ضرورة أن تكون تدرجية، حتى لا تنتج عنها هزات لا تُعرف نتائجها؛ وحتى يتجنب الأردن ما تعانيه دولة مثل مصر من فوضى سياسية وأزمة اقتصادية وتضييق مقلق على الحريات.
ولكن المفترض أن تقود هذه التدرجية إلى أهداف محددة في نهاية المطاف، أزعم أنها تتمثل في إعادة تقاسم السلطات تحت المظلة الهاشمية، وعدم تغول واحدة على أخرى؛ وسيادة القانون على الجميع بدون تمييز؛ ومحاربة مؤسسية للفساد؛ واستقرار اقتصادي يُخرج الأردن من أزمته المزمنة، ويكفل نموا يشمل كافة فئات المجتمع، وعلى رأسها الفئات الأقل حظا.
مثل هذه الأهداف الطموحة لا تتحقق بين ليلة وضحاها، وتتطلب التدرجية. ولكنها تتطلب، أيضا، إرادة سياسية واضحة، وخطة زمنية واقعية ومدروسة، وتشاركية مع المجتمع، حتى يصبح التنفيذ التدرجي ذا معنى، وحتى يقبل المواطن بعض الاختلالات السياسية والاقتصادية الآنية، استناداً إلى اطمئنانه أنه تجري معالجتها بمنهجية وبإرادة صلبة، توصلانه في نهاية المطاف إلى الأهداف المرجوة.
الخوف كل الخوف -وآمل أن لا تكون الحال كذلك- هو من أن تستخدم ذريعة التدرجية المشروعة لإلهاء الناس بوعود بإصلاح منشود لا يترجم على الأرض بأكثر من خطوات سلحفائية، لا تدرك أن ترف الوقت اللامتناهي لم يعد قائما، ولا تنتج عنها (الخطوات) أكثر من إجراءات تنال الشكل دون الجوهر؛ بمعنى آخر، وعلى سبيل المثال، فإن من الجميل أن تجرى الانتخابات تحت إشراف هيئة مستقلة تضمن نزاهتها، ولكن الأجمل إصلاح القانون نفسه لضمان ليس النزاهة فقط، وإنما التمثيل العادل أيضا. فالتدرجية التي لا تقود إلى هدف محدد ومتفق عليه، قد لا تتعدى السير في دائرة، حتى إذا ما تشكل انطباع بأن نهاية الطريق لا تلوح أبدا، تعاظم الإحباط لا سمح الله.
تذكرنا التدرجية السياسية بمثيلتها في العملية السلمية. فقد بنيت العملية السلمية برمتها على مبدأ التدرجية الذي كان منطقيا ومشروعا، طالما أن الناس كانت موعودة بسقف زمني مدته خمس سنوات، يتحقق بعدها حلم الدولة الفلسطينية. أما بعد اثنين وعشرين عاما من بدء العملية، فمن منا اليوم ما يزال مؤمنا بتدرجية لم تؤد إلى زوال الاحتلال الإسرائيلي؟
المطلوب اليوم هو أن تقف قوى المجتمع كافة وراء التدرجية الهادفة المنتجة التي تستطيع الإشارة لمنجزات إصلاحية تنال الجوهر، وإن بالتدريج. ومن الخطورة بمكان أن نعطي الانطباع بأننا نسير على طريق الإصلاح التدريجي، ليكتشف المواطن لا سمح الله -مثل ما تم سابقا- أن نمط الإدارة لم يتغير، وأن عقلية السلطة التنفيذية هي هي، وامتيازات البعض لا تُمس، وإعادة توزيع السلطات ليست بالوارد، والوضع الاقتصادي يزداد سوءا.
فعلت الحكومة خيرا حين قدمت برنامجا اقتصاديا لمدة أربع سنوات يتفق البعض عليه ويختلف، وإن كان المؤمل أن يتم النقاش حوله أكثر من النقاش الدائر حول أشخاص الوزراء. كما آمل أنه صار واضحا أن الإصلاح الاقتصادي الذي يعمل بمعزل عن الإصلاح السياسي والمؤسساتي قد فشل في تحقيق نمو شامل لكافة المواطنين، أو معالجة الفساد الذي تفشى، لأنه لم يكن إصلاحاً جادا في بلورة نظام سياسي من الضوابط والتوازنات، يضمن سلطة تشريعية وأخرى قضائية قادرتين على وقف تغول السلطة التنفيذية عندما يحدث. فليس هناك من طريق جادة للإصلاح إلا إذا تلازم شقه السياسي مع نظيره الاقتصادي. وليت الحكومة كانت أكثر وضوحا وتفصيلا في خطتها للإصلاح السياسي، كما حاولت في الشق الاقتصادي.
لقد وصلنا إلى مرحلة لم يعد معها الكلام المنعّم والمغلّف مجديا أو مرغوبا. نحن نواجه أزمة سياسية واقتصادية حقيقية، تتطلب تضافر الجهود كافة؛ أزمة تحتم علينا جميعا ليس الحديث الصريح فقط، وإنما إدراك حقيقة أن النمط القديم في إدارة الدولة لم يعد ناجعا أو ناجحا، وأن الإصرار على المحافظة على امتيازات البعض سيهدد حقوق الكل، بمن فيهم هذا البعض. وإن تحقق هذا الإدراك فعلا لا قولا، فتحت الطريق لكتابة عقد اجتماعي جديد مع الأردنيين كافة؛
عقد يتم فيه تحديث وتجديد الأسس التي قامت عليها الدولة، والوصول تدريجيا إلى أردن حديث تعددي، يحتوي كل أبنائه ويحتفي بهم ضمن إطار سيادة القانون على الجميع، وعدم تغول فرد أو مجموعة على حقوق الفرد أو المجموع. ومتى ما تمت إعادة تعريف الإطار، تصبح التدرجية وسيلة لا غاية، وتغدو التضحيات ذات معنى طالما أن للنفق نهاية.
من منا لا يريد الوصول إلى هذا الهدف؟ وإن أصرت مجموعة، مدنية أم دينية، على الاستحواذ على امتيازات أو حقوق لها دون غيرها، أو على احتكار الحقيقة أو المكتسبات، نُبذت من المجموع. إن رُفع شعار التدرجية للوصول إلى هذا الهدف، وقف وراءه الجميع.
بعد عامين على بدء الثورات العربية، هل نستطيع تقييم ما يجري في الأردن تقييما موضوعيا؟ هل نسير بخطى واثقة نحو مستقبل مزهر، أم أننا ما نزال أسرى لقلة تريد المحافظة على مصالحها؛ تتستر وراء تدرجية سلحفائية تبقينا في دائرة مغلقة، وتحاول خلق وهم يُدعى إصلاحا؟ هل ما اتخذ من خطوات وضعنا على سكة إصلاحية لا رجعة عنها، أم أنها لا تتعدى الجماليات، فيما تواصل الدولة إدارة البلاد تماما كما في السابق؟ هل الإصلاح خيار استراتيجي حقيقي للدولة وأركانها، أم أن العديد من هذه الأركان يتكلم عن الإصلاح بقرف، مبطن حينا وواضح أحيانا؟ هل هناك إدراك بأن مستقبل البلاد الزاهر مرهون بمدى جدية واستمرارية الإصلاح، وبلورة نظام تعددي يشمل كافة المواطنين والمواطنات، أم إن فزاعة الإخوان المسلمين ستبقى مرفوعة في وجه كل من ينادي بالإصلاح الجاد؟
لن أدعي أنني أعرف الجواب. وأترك للقارئ الحكم على واقع الحال. هل ننظر إلى ما تم من "إصلاح" خلال السنتين الماضيتين، ونقول "الحمد الله" أم "الله يستر"؟ ما أؤمن به إيمانا قاطعا هو أن تَرَف الوقت ما عاد كما كان، وأن التراقص على الكلمات ليس سياسة محمودة العواقب. وأفضل للدولة أن تسمع هذا الكلام من أبنائها قبل أن تسمعه من الآخرين.
جلالة الملك طرح رؤيته وطلب النقاش حولها. وهذا رأي واحد ممن تشرف بالخدمة في الدولة لأكثر من عشرين عاما: ألف نعم للتدرجية، شرط أن تكون مؤدية إلى مجتمع ديمقراطي تعددي مزدهر. هذا هدف يستطيع الجميع، من سلطة تنفيذية ومعارضة، الالتفاف حوله والعمل لأجله. فلا أحد يتمنى ما آلت إليه الأمور في مصر، ولتجنب ذلك فالمطلوب تدرجية هادفة، وليس سياسة الحفاظ على الوضع القائم، مغلفة بتعابير إصلاحية. (الغد)