استطاعت وزارة التنمية السياسية أن تنجح في حشد عدد كثير ومتنوع من رجال الأحزاب، وعدد كثير من المنخرطين في الشأن السياسي، من جميع الاتجاهات في المجتمع الأردني على الصعيدين الرسمي والشعبي؛ في ندوة أو ورشة عمل لمدة يومين في جوّ معتدل ودافئ على ضفاف البحر الميت، تحت عنوان "الحكومة البرلمانية واقعٌ وتطلعات".
ربما يختلف المشاركون والمراقبون في تقويم هذه الورشة ومدى نجاحها في تحقيق أهدافها وغاياتها المرسومة، وربما يتفاوتون في تقدير حجم النتائج الحقيقية التي تمخضت عنها، ومقدار الفائدة المتحققة التي تعود على الأطراف المؤثرة في القرار ومجمل العملية السياسية، وهل ستسهم فعلاً في الانتقال الحقيقي نحو مرحلة الحكومة البرلمانية أم لا، ولا نريد هنا أن نخوض في هذا التقويم على هذا النحو، وإنّما نود الإشارة إلى بعض الملاحظات المستوحاة من أعمال الورشة.
الملاحظة الأولى تتعلق بأهمية هذا التجمّع المتنوع، وهذا الحشد المتميز، الذي شارك فيه رؤساء حكومات سابقون، ووزراء ومسؤولون على الصعيد الرسمي من الذين أسهموا في قيادة المرحلة السابقة إضافة إلى عدد من أمناء الأحزاب السياسية المنضوية تحت لواء المعارضة، أو من فضل اختيار المنطقة الوسطية، أو التي اختارت لنفسها مسمّى الأحزاب الوطنية، وكذلك الأحزاب الجديدة وبعضها تحت التأسيس، مّا أتاح فرصة للتحاور الجاد والحديث القريب حول قضية في غاية من الأهمية لكونها تمثل عنوان الإصلاح السياسي، ومطلب رئيسي من مطالب القوى السياسية.
نحن بحاجة إلى مثل هذا الحوار الواسع، وإن لم يكن رسميّاً، ولكن هذه الحوارات هي التي تسبق التوافقات الحقيقية وهي التي تقرب المسافات بين المتحاورين، وتبني جسور التفاهم بين الأطراف، وقد تخلّل الحوار وجبات الغداء، وأوقات الاستراحة التي أتاحت المجال لاستكمال الأفكار وإجراء مزيد من التوضيحات؛ من أجل إكمال عملية الفهم المتبادل، وتجلية الصورة وإكمال المشهد في جوّ تسوده الجديّة الممزوجة بالاحترام المتبادل، الذي يقلّل من حدة الخلاف ويزيل كثيراً من نقاط الالتباس والغموض.
الملاحظة الثانية تتمثل بالدفع نحو ملامسة الواقع السياسي وقراءة المشهد القائم بعينين اثنتين، بدلاً من أن يتمّ استخدام عين واحدة منفردة من الجانب الرسمي على حدة، ومن الجانب الشعبي والمعارضة على حدة أيضاً، وذلك من خلال مشاركة الذين إشتغلوا في موقع رئاسة الحكومة والمواقع المسؤولة في الدولة في الاستماع والإصغاء والتوضيح والتعديل والتصحيح، مّا يؤدي حتماً نحو مقاربة وطنية واحدة، في ظلّ ما تبديه الأطراف كلّها من حرص واضح ومعلن، ومتفق عليه يتعلق بالخطوط العريضة لمسيرة الإصلاح الأردنية، التي تتسم بالسلمية والتوافقية والبعد عن العنف والتطرف والتعصب، والاتفاق على ضرورة المحافظة على الدولة ومؤسساتها واستقرارها وأمنها ومقدراتها، والحيلولة دون جرّ البلاد نحو الفوضى والانفلات وانفراط العقد الآمن فيها.
إنّ الاتفاق الجمعي على ضرورة تحقيق إصلاح جوهري يتمثل بتغيير منهجية إدارة الدولة وتغيير طريقة تشكيل الحكومات، لتصبح إفرازاً حقيقياً لبرلمان منتخب بطريقة صحيحة، قادر على تمثيل الشعب الأردني، وفي الوقت نفسه قادر على تشكيل حكومة برلمانية لها برنامجها السياسي المعلن على الجمهور، ولها رؤيتها المعروضة مسبقاً على الناخبين، ومن ثمّ انتخابها بناءً على هذا البرنامج وهذه الرؤية الشاملة لإدارة الدولة بكلّ مجالاتها وجميع شؤونها، عبر ولاية دستورية تامّة، لدورة برلمانية كاملة، هذا الاتفاق ينبغي أن يتمّ ترجمته بخطوات عملية مبرمجة زمنياً، وتوافق شعبي رسمي قادر على إنقاذ الدولة الأردنية، وقادر على تجاوز الأزمات المتفاقمة والمستفحلة التي نعاني منها على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
الملاحظة الثالثة، تتعلق بضرورة استيعاب الدرس الذي يُجرى في الإقليم بعقل وحكمة ورويّة وحذر، وأخص بالتحديد ذلك الجانب المتعلق بالحرص على إحداث التوافق الحقيقي الذي يسبق عملية الانتقال، ويمنع الانقسام المجتمعي، ويحول دون الانجرار إلى استخدام العنف المتبادل أو مجرد التفكير في استعماله، وينبغي أن ندرك بإحساس عميق الحاجة الملحة إلى التعايش مع الآخر، واستيعاب المخالف، الذي يقتضي شيئاً من التنازل والتسامح والتواضع، وربما شيئاً يسيراً من التغافل وليس الغفلة، وقسطاً يسيراً من التغابي وليس الغباء، ورحم الله الشاعر العربي القائل:
ليس الغبيّ بسيدٍ في قومه ولكنّ سيد قومه المتغابي .