صفعتان قويتان تلقتهما الإدارة الامريكية في غضون عشرة ايام، الاولى تمثلت في اقتحام السفارة الامريكية في بنغازي وقتل السفير وثلاثة من الدبلوماسيين، والثانية قرار حلف الناتو تجميد جميع عملياته المشتركة ضد حركة طالبان مع قوات الأمن الافغانية التابعة نظريا للرئيس الافغاني حميد كرزاي.
القاسم المشترك بين القضيتين يتلخص في أن الادارة الامريكية، السابقة واللاحقة، تدخلت عسكريا في البلدين من اجل ‘تحريرهما’ من ‘ديكتاتور فاسد’، مثلما هو الحال في ليبيا، ومن نظام حكم ‘ارهابي’ و’متخلف’ يؤوي تنظيم ‘القاعدة’، مثلما هو الحال في افغانستان.
السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية اصابتها الصفعة الاولى بحالة من الصدمة والذهول، حتى انها لم تتردد لحظة في التعبير عن ذلك متسائلة: ‘كيف يحدث هذا في دولة ساعدنا في تحريرها’، ‘وفي مدينة (بنغازي) ساهمنا في انقاذها من الدمار’؟
ومن المفارقة ان الشرارة التي ادت الى إشعال فتيل الاحتجاجات الصاخبة في مختلف انحاء العالم الاسلامي انطلقت من الولايات المتحدة، ومن خلال انتاج شريط بذيء مقزز، وبطريقة استفزازية متعمدة لإهانة مليار ونصف المليار مسلم، ينتشرون في مختلف انحاء المعمورة.
فإذا كان ليبيون غاضبون اقتحموا القنصلية الامريكية في بنغازي وقتلوا السفير الذي لجأ اليها باعتبارها اكثر أمنا من السفارة في طرابلس الخاضعة لسلطة الميليشيات المسلحة، فإن أقرانهم في افغانستان لم يجدوا سفارة لكي يقتحموها، وانما قوات امريكية يعملون كجنود تحت امرتها، فوجهوا بنادقهم الى صدورهذه القوات، فقتلوا ستة جنود، اربعة منهم امريكيون واثنان بريطانيان.
السيدة كلينتون لا يمكن ان تستوعب مشاعر الغضب هذه، ناهيك ان تفهم دوافعها، وهذا الجهل المطبق الناجم عن سيطرة يهود موالين لاسرائيل على مختلف معاهد ابحاث الشرق الاوسط في الولايات المتحدة، يلخص الاخفاقات المتتالية للإدارات الامريكية في هذه المنطقة التي تشكل المركز الأهم لمصالح بلادها في العالم تقريبا.
بعد احد عشر عاما، يقرر حلف الناتو تغيير استراتيجيته في افغانستان، لأنه لم يعد يثق بأكثر من ربع مليون جندي ورجل أمن انفق على تدريبهم وتسليحهم حوالى ستة مليارات دولار، بعد ان اكتشف ان ربع الهجمات التي تستهدف قواته يأتي من قبل هؤلاء.
إنها انتكاسة كبيرة لحلف الناتو، فمن المفترض ان يسلّم جميع المهام الأمنية الى القوات الافغانية بعد انسحابه بالكامل عام 2014، مما يعني عمليا انه لن يجد قوات يسلّم هذه المهام اليها، ولن يجد رئيسا يخلف الرئيس كرزاي في الحكم بعد قراره عدم ترشيح نفسه في اي انتخابات رئاسية قادمة.
حركة طالبان تستطيع اعلان انتصار مبكر على حلف الناتو وقواته انجزته بمقاومة شرسة وقدرات غير عادية في تنسيق الهجمات وتجنيد المقاتلين، واختراق القوات الأفغانية وزرع خلايا مقاتلة في اوساطها.
امريكا وحلفاؤها اعتمدوا على جيش من المساطيل مدمني المخدرات في معظمه، فجاءت النتائج كارثية بكل المقاييس، فالاحصاءات الرسمية تفيد بان اكثر من ثلثي هذا الجيش يتعاطى المخدرات، والاخطر من ذلك ان هذه الآفة انتقلت الى اعداد كبيرة من عناصر وحدات الناتو، فجاءت الخسائر مزدوجة.
ولا اعرف كيف غاب عن ذهن الامريكيين ان قوات الجيش الافغاني لن تدين بالولاء لهم، خاصة بعد ان اكد الرئيس باراك اوباما ان جميع قوات الناتو ستنسحب في الموعد المحدد، اي عام 2014. فلماذا يقاتل هؤلاء الطالبان الذين تشكل قبيلة البشتون التي ينتمون اليها نصف الشعب الافغاني تقريبا، وتجمع كل التوقعات بأنهم سيكونون حكام المستقبل؟
فعندما يتبوّل الجنود الامريكان على جثامين مقاتلي طالبان، ويمزق آخرون القرآن الكريم، ويقتحم جندي مسطول قرية ويقتل 18 من ابنائها معظمهم نساء واطفال، على طريقة افلام رامبو، ثم يجمع جثامينهم ويصبّ عليها البنزين ويشعل فيها النار ثم يستلّ سيجارة ويشعلها وهو يراقب المشهد، عندما يحدث كل هذا وما هو اكثر منه، كيف سيكون هناك اي ولاء او تعاطف مع هؤلاء؟
حلف الناتو ذهب بقواته وطائراته الى افغانستان من اجل القضاء على القاعدة، ونظام حليفها الملاّ عمر، وها هي القاعدة تصبح ‘قاعدات’ والطالبان تستعد لاستلام الحكم في كابول، فمن هو العبقري الذي نجح بخبراته وخططه بإقناعهم بالدخول الى هذا المستنقع الدموي الذي لم تدخله قوة غربية او شرقية طوال الألف عام الماضية الا وخرجت مهزومة ومثخنة الجراح؟ انها مراكز ابحاث المحافظين الجدد ومعظمهم من انصار اسرائيل.
المؤشرات تؤكد ان امريكا بصدد ارسال قوات وطائرات الى ليبيا، وتخطط للانتقام لمقتل سفيرها ودبلوماسييها الثلاثة.
الجماعات الجهادية تنتظر مثل هذا الخبر الذي سيثلج صدرها حتما، فالانتقام من القاعدة بسبب احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) كلّف حوالى 500 مليار دولار في افغانستان وضعف هذا الرقم في العراق، والعداد مستمر في العد صعودا.
امريكا حصدت كراهية العرب والمسلمين قبل الربيع العربي بدعمها انظمة ديكتاتورية، ورؤية المنطقة من المنظار الاسرائيلي، وها هي تصعّد من هذه الكراهية اثناء وبعد الربيع العربي، وللأسباب نفسها.
السيدة كلينتون ومعها بقايا المحافظين الجدد الذين يصيغون لها الدراسات التي تخدم مصالح اسرائيل، بحاجة الى دروس في تاريخ وجغرافيا الشرق الاوسط حتى لا تتفاجأ وتصدم من احداث جديدة، على غرار ما حدث في بنغازي الليبية، ونعدها بأننا سنجد لها من هو قادر على اعطائها هذه الدروس بإخلاص وموضوعية.