هذا المثلث المتآمر هو الذي يصب الزيت على نيران الاضطرابات الحالية، إخراج الثورة عن مسارها الوطني، وخلق حالة من الفوضى في البلاد تشوه صورتها، وتمهد الاجواء لانقلاب يعيد البلاد الى ديكتاتورية العسكر مجددا، وهي ديكتاتورية يمكن ان تكون اسوأ بكثير من ديكتاتورية حسني مبارك والرئيس انور السادات من قبله.
ومن المؤلم ان المجلس العسكري المصري الحاكم، يساهم، وربما من قبيل حسن النية، في انجاح هذا المثلث ومؤامراته، من خلال بعض السياسات والقرارات الخاطئة التي يتخذها، وتشكل استفزازا للشعب المصري وشبابه الثائر، مما يدفعه الى النزول الى ميدان التحرير للاحتجاج والتظاهر من منطلق الحرص والخوف في الوقت نفسه على ثورته التي يرى انها تسرق امام عينيه.
لا نعرف لماذا هذا الاصرار من قبل المجلس على العودة الى الوراء، والاستعانة برموز نظام مبارك، وكأن الارحام المصرية قد عجزت عن انجاب شخص آخر غير الدكتور كمال الجنزوري مثلا، او قبله عصام شرف، او منصور حسن رئيس المجلس الاستشاري.
اكثر من نصف تعداد سكان مصر تحت سن الخامسة والعشرين عاما، نسبة كبيرة منهم يعيشون الحداثة في انصع صورها واشكالها، بينما السيد الجنزوري ومعظم المسؤولين الذين يختارهم المجلس العسكري لتولي المناصب القيادية الهامة في السلطة التنفيذية هم فوق السبعين عاما في المتوسط، فهل هذا منطقي؟
الثورة جاءت من اجل التغيير، والدفع بدماء شابة في شرايين الدولة ومؤسساتها، والانطلاق نحو المستقبل، واكتساب ادوات العلم والمعرفة الحديثة، للنهوض بالبلاد من ازماتها الطاحنة، واعادة بنائها على اسس عصرية مؤسساتية، ولكن المجلس العسكري يريد اعادة استنساخ النظام السابق، وتدوير وجوهه ورموزه، تحت عناوين الخبرة والاستقرار، وهي حجج وذرائع لا تقنع احدا.
' ' '
ما لا يدركه المشير محمد حسنين طنطاوي الذي يختار هؤلاء 'العواجيز' مثل الدكتور الجنزوري ، ان الرئيس الامريكي باراك اوباما ما زال تحت الخمسين،وكذلك رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، والرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين، ولا ننسى ان نيكولا ساركوزي والمستشارة الالمانية انجيلا ميركل في منتصف الخمسينات. فماذا يمنع لو تولى المسؤولية في مصر شبابها الذين فجروا الثورة، ورووها بدمائهم الزكية الطاهرة؟
السيد الجنزوري ليس خيارا موفقا، مع احترامنا لكل التبريرات التي يقدمها المجلس العسكري لتبرير انتقائه من بين طابور طويل من القيادات المصرية الشابة، التي تعلمت او عملت في ارقى الجامعات والشركات العالمية. فالرجل يقف خلف مشاريع الخصخصة التي فتحت ابواب مصر على مصراعيها لفساد مافيا رجال الاعمال، ونهب المال العام بالتالي. صحيح انه تعلم في الغرب، ولم يتورط مطلقا في الفساد او اي من امراض النظام السابق، ولكن مصر تريد كفاءات شابة لإدارتها وليس اناسا على نمط 'الام تيريزا'.
نستغرب ان يغيب عن ذهن المشير طنطاوي واعضاء المجلس المنضوين تحت قيادته ان الرئيس مبارك يحاكم وجميع اركان حكمه، لانهم ارتكبوا أم الخطايا عندما قتلوا او اعطوا الاوامر، بقتل مئات من الشباب المصري في ميدان التحرير. وها هي قوات الجيش والأمن المركزي ترتكب الجرائم نفسها، وتقتل اكثر من خمسين شابا لانهم عبروا عن معارضتهم للدكتور الجنزوري وحكومته.
تكرار الاعتداءات على المتظاهرين يفقد المجلس العسكري شرعيته التي كان اكتسبها عندما رفض اراقة الدماء في ايام الثورة الاولى، واجبر الرئيس مبارك على الرحيل، وفقدان المجلس شرعيته، واهتزاز صورته في اوساط ثمانين مليون مصري، يعني الفوضى والمزيد من القتل والتخريب، او انقلابا عسكريا تحت عنوان فرض الاستقرار والحفاظ على الأمن، واي من هاتين النتيجتين كارثة لمصر والأمة العربية بأسرها.
هناك مخططات بل جرائم بشعة لا تريد لهذه الثورة ان تنجح حتى لا تصل الى منابع النفط وكنوزه في الجزيرة العربية ومنطقة الخليج العربي، خاصة بعد ان جاءت الانتخابات في جولاتها الاولى والثانية بالاخوان المسلمين والسلفيين الذين حصدوا ما نسبته 65 في المئة من مقاعد البرلمان.
' ' '
المجلس العسكري يجب ان يعمل على إفشال هذه المؤامرة بتجنب تقديم اي ذرائع للذين يقفون خلفها، مثل قتل وسحل المتظاهرين، ورفض مطالب المتظاهرين، او محاولة البقـــاء في الحكم وتكريس معظم السلطات في يده، اي المجلس العسكري.
لا نتردد لحظة في تبرئة شباب الثورة من جريمة حرق المجمع العلمي، الذي يحتوي على اغلى كنوز مصر واثمنها من المخطوطات والكتب التي جرى جمعها وحفظها منذ ان بناه نابليون قبل مئتي عام، او اي مؤسسات عامة او مبان حكومية، لان هؤلاء الشباب احرص على مصر وثرواتها وكنوزها من اي فئة اخرى، لما اكتسبوه من علم ووطنية وايمان واخلاص لبلدهم وعقيدتهم وامتهم.
الاعتداء الكارثي على المعتصمين اعطى نتائج عكسية تماما، واشعل حرب شوارع وسط القاهرة، وكلف البورصة المصرية خسائر تصل الى ملياري دولار في اقل من يومين، في وقت تحتاج مصر الى كل دولار يستثمر في اقتصادها المتضعضع.
نشعر بالحزن والالم، فبعد ان كانت مصر تعيش عرسا ديمقراطيا مع اجراء انتخابات جرى وصفها بأنها اول انتخابات حرة منذ ستين عاما، اصبحت، اي مصر، تعيش مأتما وحالة من القلق والخوف من مستقبل مجهول، قد يكون احد عناوينه الفوضى الشاملة وسقوط هيبة الدولة.
المجلس العسكري يجب ان يتحمل مسؤولياته والاستماع الى الشعب، وليس الى قوى الضغط الامريكية والاسرائيلية والعربية المتحالفة معهما ومع مشاريع هيمنتهما، من حيث تغيير السيد الجنزوري وحكومته، تماما مثلما اسقط حكومة شرف وتقديم موعد الانتخابات الرئاسية، لطمأنة الشعب حول جدية نقل السلطة الى المدنيين، وانهاء سيطرة المؤسسة العسكرية على مقدرات البلاد.
نكتب عن مصر لأننا نحبها، ونراهن على نجاح ثورتها، لان انكسار هــــذه الثورة لا قدر الله، هو انكسار للأمــــة بأسرها، والعــــودة بها الى عصور الظــــلام والفساد والإذلال والعبودية والتبعية، ومصادرة الدور والكرامة المصريين، وهذا ما لا نريده ولا يريده الشعب المصري، صاحب الرصيد الكبير في الريادة وعزة النفس.
المجلس العسكري حريص على كسب امريكا من اجل مساعداتها، ودول الخليج من اجل اموالها التي لم يصل منها الا فتات الفتات، وعلى العلاقة مع اسرائيل لتجنب غضبها، ولكنه نسي حقيقة هامة انه بدأ يخسر الشعب المصري، ان لم يكن قد بدأ يستعديه.