اخبار البلد
يبدو علم الاقتصاد في عالم ما بعد الأزمة الـ(رأسمالية) العالمية اليوم قريبا من تصنيف «أشباه العلوم» أو «العلوم الزائفة» مثل العلاج بالطاقة أو حتى تأثير الأبراج على الإنسان، والحديث في الاقتصاد لم يعد متاحا فقط للمتخصصين - الذين خفتت أصواتهم -، ولكنه أصبح موضوعا يضطلع به خبراء استولى معظمهم على اللقب من خلال عمله في قطاعات مالية أو تجارية وليس اقتصادية، بمعنى أنهم يتعاملون مع نتائج عملية دون أن يتمكنوا عادة من الإلمام بأسبابها كظواهر اقتصادية، ذلك بجانب أعداد كبيرة من الناشطين السياسيين والاجتماعيين.
الأحزاب السياسية لا تعتمد على دراسات اقتصادية معمقة، وليس لديها دوائر معنية بالبحث والتحليل وتقديم المقترحات، وتتبنى وجهات نظر أيديولوجية جاهزة، وأي برنامج سياسي يشتمل في جانبه الاقتصادي على مطالبات عامة، مثل توفير الوظائف وكبح الأسعار ولجم التضخم وزيادة التصدير وتخفيف الواردات ودعم الصناعة والزراعة دون تفاصيل، وهذه تقريبا هي المطالب المثالية لأي دولة، ولكن المشكلة ليست في تحديد الوضع المثالي، ولكن في الوصول إليه، والبرامج تحدد الوضع المثالي فقط وتشدد على ضرورة تحقيقه، ولا تجيب عن السؤال الأهم: كيف؟
لماذا نعيش واقعا اقتصاديا سيئا، الإجابة السهلة، الحكومات مقصرة والفساد المالي والإداري يعيق التقدم، هي صحيحة ولكنها كما ذكرنا، إجابة سهلة، وللأسف، ليست كاملة، ولتكتمل الإجابة فالحكومات أيضا عاجزة، أي حكومة ستظل عاجزة عن تحسين الوضع الاقتصادي لتصل به إلى الحالة المثالية، لأن الأردن لا يستطيع أن يؤثر في أسعار الطاقة العالمية، ولا يستطيع أن يتدخل لتصحيح أسعار الغذاء، وكل ما في وسع الحكومة هو القيام بحماية المواطنين من الاستغلال والفساد، ونعتقد أن ذلك سيعمل على تحسين الأوضاع بالفعل، ولكنه لن يفيض بأنهار اللبن والعسل على الأردنيين.
مشكلة الحكومات في دول العالم الثالث أنها تشتري الشعبية من الشارع الذي يترك طويلا تحت تأثير التخدير بالشعارات والأوهام الاقتصادية، على عكس بريطانيا التي أتت بحكومة محافظين تقشفية برئاسة ديفيد كاميرون في ذروة الأزمة المالية العالمية، وكان الناخب البريطاني يعرف أن هذه الحكومة لا تضع البطالة أو الأسعار على رأس اهتمامتها ولكنها تحافظ على تماسك الاقتصاد البريطاني في المدى البعيد.
المقارنة ظالمة بين المواطن الأردني ونظيره في بريطانيا، وحتى بين الأردن وبريطانيا ككل، ولكن البريطانيين نقديون يمكنهم الفصل بين الطرح السليم والمنطقي، وبين الكلام العشوائي والمتناقض، وإذا كان تأسيس الحس النقدي في المجتمع غير ممكن أو يتطلب أجيالا كاملة فإن المطلوب هو الشعور بالمسؤولية في التصريحات والإجراءات الاقتصادية.
ينطوي ذلك على جانبين، الأول، إعلامي (توعوي) بحيث لا تبقى مسائل المالية العامة طلاسم غامضة لدى الكثيرين حتى ممن حصلوا على شهادات عالية في تخصصات أخرى، والثاني، شفافية الإجراءات الحكومية تجاه القضايا الاقتصادية في مجالات الضريبة والضمان والجمارك بحيث لا تتحرك الشائعات لقيادة السوق لاتجاهات تزيد الأزمة تعقيدا، كما يحدث حاليا في الاعفاءات العقارية التي أدى انتظارها – دون سبب – إلى تراخي السوق وتراجعه.
الوقت ليس لهواة الاقتصاد ولمن يعتقدون بأن خبرتهم في الأعمال كتنفيذيين أو إداريين أو وضعهم كساسة وناشطين يخولهم بناء تصورات للوضع الاقتصادي لا تخرج عن خانة رص الحكي؛ الاقتصاد يترنح علميا، ولكنه لن يتحول إلى صفحات الأبراج أو التسلية لأنه بصورة ما يبقى أكثر العلوم (غير المكتملة) وقارا وهيبة.