جاء البيان الختامي للقمة الخليجية السادسة والأربعين في البحرين، بوصفه وثيقة سياسية شاملة تعكس لحظة نضج في مسار العمل الخليجي المشترك، وتكشف في الوقت نفسه عن إدراك عميق لحجم التحولات الإقليمية والدولية المحيطة بدول المجلس. لم يكن البيان مجرد سرد بروتوكولي للمواقف؛ بل كان أقرب إلى خريطة طريق متكاملة تمس الأمن، والاقتصاد، والحوكمة، والعلاقات الخارجية، وقضايا المنطقة المشتعلة، وهو ما يمنحه بعداً استراتيجياً يتجاوز لغة التمنيات المعتادة في مثل هذه البيانات.
أول ما يلفت في البيان هو تأكيده الصارم على مبدأ وحدة الأمن الخليجي: «أمن دول المجلس كل لا يتجزأ». هذه العبارة، التي تكررت بصيغ متعددة، تعكس وعياً خليجياً متراكماً بأن التهديدات لم تعد محصورة في حدود دولة بعينها، بل باتت عابرة للجغرافيا، سواء تمثلت في اعتداءات مباشرة، أو في اختلالات إقليمية مزمنة، أو في تهديدات الملاحة والطاقة. هذا المبدأ لا يُطرح نظرياً فقط، بل يسنده البيان باتفاقيات الدفاع المشترك، وبمواقف سياسية واضحة من إيران، ومن الاعتداءات على دول المجلس، ومن أمن الممرات البحرية، بما يعكس انتقال مفهوم الأمن الجماعي من مستوى الشعار إلى مستوى السياسة المعلنة.
اقتصادياً، يعكس البيان انسجاماً واضحاً مع التحول الخليجي الكبير نحو ما بعد النفط، وهو ما يتقاطع زمنياً مع إعلان الميزانية السعودية التي أكدت المضي في التنويع الاقتصادي، واعتماد منصات تبادل البيانات الجمركية، وتسريع متطلبات الاتحاد الجمركي، وتوسيع السوق الخليجية المشتركة، وإنشاء هيئة الطيران المدني، وربط دول المجلس بمشروع السكة الحديد، كلها مؤشرات على أن الاندماج الاقتصادي لم يعد حلماً مؤجلاً؛ بل أصبح مساراً تنفيذياً بجدول زمني. ويكتسب هذا المسار زخماً إضافياً حين يُربط بتنمية الصناعات الخليجية، كما في منتدى «صُنع في الخليج»، وبالتحولات الطاقية في مجال الهيدروجين والاقتصاد الدائري للكربون والطاقة المتجددة.
في بُعد الحوكمة، يخرج البيان بلغة غير مسبوقة من حيث التركيز على النزاهة ومكافحة الفساد، واعتماد أدلة موحدة للمسؤولية القانونية والتحقيقات المالية، والاستراتيجية الأمنية لمكافحة غسل الأموال. هذا التوجه يعكس أن دول الخليج لم تعد تنظر إلى الحوكمة بوصفها مطلباً خارجياً؛ بل بوصفها شرطاً داخلياً للتنمية المستدامة والاستقرار الاجتماعي. كما أن استحضار الذكاء الاصطناعي، وسياسات استخدامه، ومعوقات تكامل الخدمات، كل ذلك يعكس إدراكاً بأن التحول الرقمي لم يعد ترفاً؛ بل ضرورة سيادية واقتصادية، تخدم المواطن وتلج إلى العصر الرقمي.
سياسياً، يحتل الملف الفلسطيني مركز الثقل في البيان، ليس فقط من حيث الإدانة الصريحة للعدوان الإسرائيلي؛ بل أيضاً من حيث دعم المسارات السياسية والاقتصادية لإقامة الدولة الفلسطينية. الإشارة إلى «مجلس السلام» لإدارة المرحلة الانتقالية في غزة، والدعوة إلى صندوق دولي لأيتام غزة، ودعم إعادة الإعمار، والاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية، كلها عناصر تعكس انتقال الخطاب الخليجي من مجرد التضامن إلى الاشتغال العملي على ما بعد الحرب. اللافت أن البيان يوازن بين الإدانة القانونية والأخلاقية للاحتلال، ودعم المسارات الدبلوماسية الدولية، ما يمنحه مصداقية سياسية أوسع في الساحة الدولية.
في المقابل، يأتي الموقف من إيران واضحاً في ثوابته: احترام السيادة، وحسن الجوار، ورفض التدخل، مع إدانة الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية، والمناورات العسكرية، والتغيير الديموغرافي في الجزر المحتلة. هذا التوازن بين الدعوة إلى الحوار من جهة، والحزم في قضايا السيادة من جهة أخرى، يعكس نضجاً في المقاربة الخليجية للملف الإيراني، بما لا يغلق باب الدبلوماسية ولا يفرّط في الحقوق السيادية.
أما في الملفات العربية الساخنة، فيظهر البيان كأنه خريطة استقرار إقليمي تتقاسم فيها دول الخليج أدوار الوساطة والدعم وإعادة الإعمار. في السودان، يبرز الدور السعودي والدعم الخليجي المشترك لإنهاء الحرب والانتقال إلى حكم مدني. وفي سوريا، يتجسد التحول الكبير في دعم إعادة دمجها عربياً، ورفع العقوبات، ودعم الاستثمار والطاقة وإعادة الإعمار، مع موقف واضح من الاعتداءات الإسرائيلية. وفي لبنان، يميل البيان إلى دعم منطق الدولة وحصر السلاح بيدها، والتمسك بالإصلاح الاقتصادي، ورفض تحويل لبنان إلى ساحة صراعات إقليمية.
اللافت أيضاً هو الحضور الكثيف لدبلوماسية الوساطة الخليجية في ملفات عالمية: من أوكرانيا وروسيا، إلى أذربيجان وأرمينيا، وإلى باكستان والهند. هذا الحضور يعكس انتقال دول الخليج من موقع التأثر بالتحولات الدولية إلى موقع المساهمة في إدارتها، وهو ما يعزز من ثقلها السياسي العالمي، ويعيد تعريف دورها بوصفها قوى استقرار لا قوى نفط فقط.
بيان القمة في البحرين لا يُقرأ بوصفه حصيلة دورة عادية من دورات المجلس؛ بل بوصفه وثيقة انتقالية في مسيرة الخليج. هو بيان يؤكد أن دول الخليج أصبحت أكثر واقعية في إدارة الاقتصاد، وأكثر مؤسسية في الحوكمة، وأكثر جرأة في المواقف السياسية، وأوسع حضوراً في الدبلوماسية الدولية. والأهم أنه يعكس فلسفة جديدة في صنع القرار الخليجي: لا تردد في المراجعة، ولا تردد في التعديل، ولا تردد في الانتقال من الخطط إلى التنفيذ. من هنا يمكن القول إن «قراءة في بيان القمة» ليست قراءة في نص سياسي؛ بل في مرحلة خليجية جديدة تُعاد فيها صياغة العلاقة بين الدولة والتنمية، وبين الأمن والدبلوماسية، وبين الداخل والخارج، على أسس أكثر اتزاناً ونضجاً.
آخر الكلام: البيان لا يتحدث عن الغد؛ بل يبدأ بصياغته.






