لم يعد الذكاء الاصطناعي فكرة مستقبلية غامضة أو أداة هامشية، بل أصبح واقعًا يوميًا يطرق أبواب التعليم العالي بقوة. ورغم ما يحمله من فرص واسعة للتطوير، ما زال يُنظر إليه في جامعاتنا العربية بقدر كبير من الريبة، وكأن مهمته الأساسية تهديد النزاهة الأكاديمية. وبدل أن نستثمر طاقاتنا في استكشاف إمكانياته، انشغلنا بتعقب الطلبة ومحاولة إثبات ما إذا كانت أعمالهم أصلية أم مساعدة بخوارزمية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: أليس الأجدر بنا أن نُعيد صياغة علاقتنا بهذه الأدوات ونجعلها حليفًا يرتقي بالتعليم والبحث بدل أن نحصرها في دائرة الاتهام؟
التجارب العالمية كثيرة ومتنوعة، ولو أردنا استعراضها جميعًا لطال بنا المقام، لكن بعض النماذج تكفي لتوضيح الفكرة. ففي جامعة كيب تاون بجنوب إفريقيا اتخذت الإدارة قرارًا جريئًا بإيقاف العمل بأدوات الكشف الآلي مثل Turnitin AI بعدما ثبت أنها غير دقيقة وأنها قد تضرّ أكثر مما تنفع. لم يكن ذلك انسحابًا من المعركة، بل انتقالًا من عقلية الرقيب إلى عقلية الشريك. فقد تبنت الجامعة إطارًا جديدًا يقوم على تعزيز الوعي الرقمي، وتطوير أساليب التقييم، وتدريب الطلبة على الاستخدام الأخلاقي. هكذا تحولت البيئة التعليمية من ساحة صراع إلى ساحة تطوير حقيقي للمهارات.
وفي الولايات المتحدة، نرى جامعة ستانفورد تنطلق من فلسفة مغايرة تمامًا. فالجامعة لم تحظر الذكاء الاصطناعي، بل أنشأت مختبرات تعليمية تتيح للطلبة والباحثين اختبار الأدوات المختلفة تحت إشراف أكاديمي مباشر. لقد تحولت مهمة الأستاذ من مطاردة النصوص المشبوهة إلى توجيه الطلبة نحو كيفية تحويل هذه الأدوات إلى مصادر للإلهام والتحليل والإبداع. أما في جامعة هارفارد، فقد أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا من العملية التعليمية نفسها، حيث يُطلب من الطلبة إعداد مشروعات قائمة على توظيفه مع تحليل نقدي لطريقة الاستخدام. هكذا أصبح الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة مساعدة، بل موضوعًا للتعلم وميدانًا للنقاش.
وعلى الجانب الآخر من العالم، اختارت جامعة نيو ساوث ويلز الأسترالية أن تواجه الواقع بشفافية. فقد أعلنت أن استخدام الذكاء الاصطناعي لا يُعد غشًا إلا إذا أخفاه الطالب. لذلك وضعت نماذج خاصة يصرّح فيها الطالب بالأدوات التي استخدمها ويكتب انعكاسًا قصيرًا عن مدى إسهامها في عمله. بذلك جعلت الجامعة من الشفافية قيمة أساسية، وخلقت مناخًا أكثر صدقًا ومسؤولية.
هذه النماذج جميعها تكشف أن الطريق لا يكمن في تقييد الطلبة أو الركون إلى كواشف غير موثوقة، بل في الاستثمار الذكي الذي يحول الذكاء الاصطناعي من خصمٍ إلى شريك. فالطلبة سيستخدمون هذه الأدوات سواء حظرناها أم لا، تمامًا كما فعلوا مع الإنترنت وويكيبيديا وأدوات الترجمة الآلية. الفارق أن الجامعات الرائدة اختارت أن تفتح الباب للاستخدام المسؤول وتوجّهه، بينما يصرّ غيرها على إغلاقه، فيدفع الطلبة إلى البحث عن طرق ملتوية تُظهر أعمال الذكاء الاصطناعي وكأنها من إنتاجهم وحدهم.
إن الاستمرار في سياسات الحظر والملاحقة لن يوقف الاستخدام، بل سيجعل الطلبة أكثر براعة في إخفائه. الأخطر من ذلك أن أدوات الكشف نفسها غير دقيقة، إذ أثبتت الدراسات المستقلة أنها كثيرًا ما تخلط بين النصوص البشرية والمولدة آليًا، لا سيما لدى الطلبة غير الناطقين بالإنجليزية. والنتيجة أن طالبًا بريئًا قد يُتهم ظلمًا بالغش، فتُضرب ثقة الطالب في جامعته ويُهدد مبدأ العدالة الأكاديمية الذي يفترض أن نحافظ عليه.
إذا كنا نريد أن نستفيد من هذه الثورة التقنية، فعلينا أن نعيد النظر في أنماط التدريس والتقييم على حد سواء. المقالات التقليدية التي يسهل على الذكاء الاصطناعي إنتاجها لم تعد معيارًا كافيًا، بينما التقييمات التي تربط النظرية بالتجربة الشخصية أو بالسياق المحلي تظل بعيدة عن قدرة الخوارزميات. العروض الشفوية، المهام البحثية، والمشاريع الجماعية تتيح لنا أن نقيس التفكير النقدي والقدرة على النقاش والإبداع. غير أن كل ذلك يحتاج إلى تغيير جذري في استراتيجيات التدريس وسياسات الجامعات، سواء على مستوى ما يُطلب من الطلبة أو ما يُلزم به الأساتذة.
المسؤولية إذن لا تقع على الطلبة وحدهم، بل على الأساتذة والإدارات معًا. فكثير من أعضاء هيئة التدريس ما زالوا ينظرون إلى الذكاء الاصطناعي بخوف لأنهم لم يتلقوا تدريبًا كافيًا على أدواته. هنا تبرز الحاجة إلى الاستثمار في برامج تدريبية وورش عمل قصيرة تمكّن الأساتذة والإداريين من فهم الإمكانات والمخاطر معًا. فالأستاذ أو الإداري الواعي بكيفية عمل هذه الأدوات سيكون الأقدر على صياغة مهام تعليمية تستفيد من إمكانياتها وتتجنب عيوبها.
كما أن الاستثمار لا ينبغي أن يقتصر على التدريب، بل يجب أن يمتد إلى البنية التحتية الرقمية. بدل إنفاق مواردنا على تراخيص كواشف مشكوك في جدواها، يمكن توجيهها إلى إنشاء مختبرات ابتكار للذكاء الاصطناعي، أو منصات تعليمية ذكية توفر دعماً فردياً للطلبة. بذلك ننتقل من عقلية الاستهلاك السلبي إلى عقلية الإنتاج والإبداع.
الأهم من ذلك أن نعيد النظر في خطابنا التربوي. الطالب الذي يشعر أن جامعته لا تثق به وأنها تترصده بأنظمة كشف وعقاب سيفقد دافعيته، بينما الطالب الذي يُقال له: "نثق بك، وسنعلّمك كيف توظف هذه الأدوات لصالحك"، سيجد نفسه في بيئة تشجعه على المسؤولية وتدفعه إلى النمو. عندها يصبح الذكاء الاصطناعي مجالًا لصقل التفكير النقدي لا وسيلة للتهرب من الجهد.
إن التحدي الأكبر أمام جامعاتنا ليس في مواجهة الذكاء الاصطناعي، بل في مواجهة مخاوفنا غير المبررة. ما يجب أن يقلقنا حقًا هو أن نتأخر عن العالم ونبقى أسرى سياسات صيغت لزمان غير هذا الزمان، بينما تتحرك الجامعات الأخرى بخطى واثقة نحو المستقبل. الذكاء الاصطناعي لن يختفي، بل سيتطور يومًا بعد يوم. والجامعة الذكية ليست تلك التي تحاول محاربته، بل التي تُعلّم أبناءها كيف يسخّرونه لخدمة الإنسان والمجتمع.
لقد أثبتت أمثلة كيب تاون وستانفورد وهارفارد ونيو ساوث ويلز أن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي يعزز النزاهة الأكاديمية ولا يقوّضها، ويوسّع آفاق الإبداع بدلاً من أن يحصره. وعلى مؤسساتنا أن تتجاوز مرحلة الشكوك والهواجس، وتتحول من عقلية الرقيب إلى عقلية الشريك. فالمستقبل ببساطة لا ينتظر المترددين.
