يصعب على القلب أن يفتح جرحه في مدينة مثقلة بجراح أوسع، كأن الحزن الشخصي بات عارٌ صغير أمام نهرٍ من الأحزان الجماعية. ومع ذلك، مرّ هذا اليوم كطعنة صامتة، اليوم الذي يذكّرني بأن ثلاثة عشر عامًا انقضت منذ أن غاب أبي، ولم يغب حضوره عن دمي ولا عن عيني.
أبي… كان رجلا يُزن الأعمال بمقياس السماء، فإذا صنع أحدنا معروفًا أو اجتهد في أمر، ابتسم بمرارة وسأل: "حررت الأقصى؟” سؤال يبدو ساخراً للغريب، لكنه كان في عينيه ميزان الرجولة ومعنى الحياة.
أتذكر طفولتي في منتصف الثمانينات؛ لم أكن أعرف بعد كيف أكتب اسمي، لكنني كنت أعرف صوته وهو يرفع مذياع السيارة، لتغمرنا جوليا بطرس وهي تنادي: "يا شعبي”.
كان مع كل حدث يلتفت إليّ ويقول: "فلسطين بوصلة العالم، وإذا الله رضي عنا… بترجع”. كان يرى في الأخبار أكثر من شريط متحرك على الشاشة؛ كان يرى نفسه، رفاقه، خنادقهم. وحين يشاهد المقاومين، كان يضرب كفاً بكفٍ ويمقت ظهور وجوههم: "ليش ببينوا وجوهن؟”… لم أفهم وقتها أن صوته كان يرتجف لأنه يعرف معنى أن تكون وجهاً مكشوفًا في مواجهة الموت.
ثم كبرت، وعرفت أن أبي لم يكن مجرد شاهدٍ على الحرب؛ لقد كان في قلبها. هناك، في البقاع عام اثنين وثمانين، في دبابةٍ قصفها الاحتلال، بقي هو وحده وخرج من بين الركام والدخان، نجى وفي عينيه يشتعل رماد الرفاق الذين لم يعودوا.
رحل أبي، وما زال يسكنني. كلما تذكرت ابتسامته، صوته، وصورته أمام شاشةٍ صغيرة، شعرت أنني ما زلت تلك الطفلة التي تمد يدها لتطال كتفه، وأسمع صداه البعيد يردد عليّ سؤاله الأبدي:
"الأقصى… متى يتحرر؟”
لروحك الرحمة ولفلسطين الحرية وللمقاومة في كل البقاع الخلود.






