‫قدَري.. سلعة لتجار السياسة والحرب‬‬

‫قدَري.. سلعة لتجار السياسة والحرب‬‬
إياد أبو روك
أخبار البلد -  

من خيمتي المتهالكه المكفهرة التي تؤويني، أكتب وأنا أسمع هدير الطائرات يدور فوق رأسي، كأنها تدور داخل رأسي لا في السماء، صار صوت القنابل جزءاً من يومي كصوت المطر في الشتاء، لكن المطر كان يمنح الحياة.. وهذه القنابل لا تمنح إلا الخراب، اقتربت السنتان على هذا الحال، وسؤالي لا يفارقني: ماذا أفعل؟ ماذا يمكن أن أفعل بعد أن فقدت كل شيء؟

فقدت أبنائي، فقدت أقاربي، فقدت بيتي وفقدت كل ما كنت أملك، لكن الأخطر من ذلك كله هو أنني أشعر أنني على وشك أن أفقد كرامتي، أحاول أن أحافظ عليها كما يحافظ الغريق على آخر نفس له تحت الماء... أصعب ما في الحياة أن يموت الإنسان وهو ما زال حياً، أن تموت الكرامة قبل أن يموت الجسد هذا شعور مقزز، شعور ينهش الروح ولا أتمناه لأحد.

أحياناً حين تضيق بي الخيمة ويخنقني هواؤها الرطب أمشي نحو شاطئ البحر، هناك أقف أمام المدى الأزرق، وأحادثه بصمت، أنظر إليه من بعيد، وأتمنى أن تحملني موجة واحدة بعيداً، ليس لأنني لا أحب هذه الأرض، ولكن لأن الوجع هنا صار أكبر من طاقتي.. في وجوه الناس أرى الخراب قبل أن أراه في البيوت، الملامح تآكلت والعيون غارت في محاجرها، وحمل كل واحد منهم على كتفيه جبلاً من الهموم.

أحياناً أتساءل: هل جرب هؤلاء الذين يتحدثون عن الصمود أن يعيشوا ما نعيشه نحن هنا في غزة؟ التجربة ليست فكرة ولا خطاباً، إنها اختبار حقيقي، اختبار يعرّيك من كل أوهامك ويكشف أمامك الوجوه على حقيقتها.. كنت أظن أن هناك من سيقف بجانبي حين تنقلب الدنيا، لكنني اكتشفت أن معظمهم انفضوا عنك حين ثقلت خطواتك، كلٌّ يبحث عن خلاصه، وكلٌّ يهرب من الآخر، وكأن الألم معدّ من قبل، وأيّ ألم ... لا أستطيع وصفه...

حتى الذكريات لم تعد لها قيمة، كانت تواسيك في وحدتك، لكن هنا وسط هذا الدمار تصير الذكريات عبئاً آخر، جرحاً مفتوحاً يذكرك بما فقدته، لا البيوت بقيت ولا الأماكن التي صنعت تلك الذكريات بقيت ولا حتى الوجوه التي كانت تملؤها الحياة نصفها غادر والنصف الآخر مبتور القدمين ما بين عاجز ومتسول وذليل!

الخيمة التي أعيش فيها نهارها مفتوح على الشمس والريح ولياليها أشبه بالمقابر، عتمة وهدوء ثقيل يقطعه أحياناً صوت الرصاص أو صفير صاروخ قبل أن ينفجر، أنام وأنا أعد الثواني بين الصفارات والانفجارات كأنني أعد الوقت الذي يفصلني عن قدري. نعم قدري، ياسادة قدر، يتقاذفه تجار السياسة وتجار الحرب، قدر تمزقه أياٍد دنسة باعته في سوق المصالح. قدر داسه ابن بواق لا يعرف الشرف، وابن سفيه لا يعرف الحياء، وابن غريب لا يعرف الأرض ولا الدم، وابن وابن ممن ولدوا على طاولة المساومة لا على تراب الوطن. قدر يا سادة، قدر المصلوب كالمسيح يرفع عينيه إلى السماء يستجدي رحمة، ودعاء يضيع في الفراغ. قدر يا قوم، قدر مثخن بالجراح يتنفس بصعوبة وينزف من كل الجهات، قدر يجر أقدامه في طريق بلا نهاية، وكلما ظن أنه بلغ المنتهى وجد باباً جديداً من الألم، هذا هو قدر يا سادة، قدر أمة لم تحمه ولم تواسه، قدر إنسان باعوا حلمه قبل أن يكتمل، وتركوه يتيماً في وجه العاصفة، هذا هو قدرنا يا قوم، قدر مكتوب بدمع ودم وصمت طويل... وهذا قدري في الليل، وأما أقدارنا في النهار أرى الأطفال يلعبون بين الخيام، لكن لعبهم ليس لعب الأطفال الذي نعرفه، لا كرة ملونة ولا ضحكات بريئة، يلعبون بأحجار الأرض وبقايا الخشب، ويضحكون ضحكاً قصيراً يخنقه السعال أو صوت قذيفة تسقط في مكان قريب، عيونهم أكبر من أعمارهم تحمل أسئلة لا يعرف الكبار لها جواباً.

الشيوخ يجلسون قرب مداخل الخيام يتحدثون عن أيام مضت، عن البيوت التي تركوها، عن الأشجار التي زرعوها ولم يعودوا إليها، يتحدثون ببطء كما لو أن الكلام نفسه صار مرهقاً وأحياناً يسكتون فجأة كأن الصور التي تستحضرها الذاكرة أقوى من قدرتهم على النطق.

كل مساء يبدأ المشهد نفسه صفوف طويلة أمام شاحنات المساعدات، انتظار طويل تحت السماء الباردة أو الحارقة، ثم عراك وصراخ ودفع بالأيدي، البعض يعود بكيس طحين، والبعض يعود خالي اليدين، والكل يعود منهكاً، هذا المشهد وحده يكفي ليشرح كيف يمكن أن تنهار كرامة الانسان، ليس لأنه جائع فقط، بل لأنه يدفع إلى حافة الإذلال وهو يحاول أن يطعم أبناءه.

في الليل أستلقي على فراش مهترئ، أسمع أنين الريح وهي تصطدم بالخيمة، وأُفكر كم سيطول هذا، هل سيأتي يوم نستيقظ فيه ولا نسمع القصف؟ هل سيأتي يوم يعود فيه كل واحد منا إلى بيته الذي هُدم أم أننا سنبقى هنا نصحو على كارثة وننام على أُخرى حتى ننسى أن للحياة شكلاً آخر.

أكتب كل هذا ليس لأنني أريد أن أشكو، بل لأنني أخاف أن يضيع صوتنا في ضجيج العالم، أخاف أن تختصر حياتنا في عناوين الأخبار، وأن تُمحى تفاصيلنا من الذاكرة، أكتب لأن الكتابة ربما هي الشيء الوحيد الذي بقي لي، الشيء الذي يثبت أنني كنت هنا، أنني عشت وأنني رأيت كل هذا بعيني.

وغداً حين أفتح عيني قد أجد كارثة جديدة تنتظرني، لكنني سأكتب عنها أيضاً حتى آخر كلمة وحتى آخر نفس.

كل ما كتبته كان حلماً ثقيلاً انعكس من صور الأخبار التي أراها كل يوم عن غزة من أصوات المراسلين وهم يصفون القصف، من صور الخيام التي تملأ الشاشات، من العيون المرهقة التي تظهر في التقارير، ومن أصوات الناس الذين يتحدثون أمام الكاميرا عن الجوع والبرد وفقدان الأمان.

لكن الحلم كان حقيقياً إلى حد الرعب، لدرجة أنني حين استيقظتُ شعرتُ أنني تركت خلفي حياة كاملة، وأنني غادرت الخيمة بصعوبة، وأن أصوات القنابل ما زالت عالقة في أذني، وأن وجوه الأطفال ما زالت تحدق في وجهي من مكان بعيد.

أدركت حينها أن ما يحدث في غزة لم يعد مجرد أخبار تبث من شاشة بعيدة، بل صار يسكن أحلامنا، ويعبر من ليلنا إلى نهارنا حتى ونحن بعيدون عنها، وأدركت أنني وإن كنت قد صحوت من الحلم فإن أهل غزة ما زالوا عالقين فيه لا يستطيعون الاستيقاظ.
شريط الأخبار "إدارة الأزمات" تحذر من مخاطر عدم الاستقرار الجوي خلال الـ48 ساعة القادمة "النقل البري": إلزام سائقي التطبيقات الذكية بالضمان الاجتماعي قيد الدراسة (43 %) من متقاعدي الضمان تقل رواتبهم عن 300 دينار استقالة عكروش من رئاسة الجامعة الأمريكية في مأدبا غوغل تكشف أبرز مواضيع بحث الأردنيين في 2025 استعادة 100 مليون دينار سنويا عبر التحقيقات وملاحقة قضايا الفساد مراسم الاستقبال الرسمي لبوتين أمام القصر الرئاسي في نيودلهي (فيديو) حفل سحب قرعة كأس العالم 2026 اليوم أجواء لطيفة اليوم وغير مستقرة غداً وفيات الأردن اليوم الجمعة 5/12/2025 "شيطان يطاردني منذ 7 أكتوبر.. فعلت أشياء لا تغتفر": ضابط إسرائيلي في لواء غفعاتي ينتحر بعد اجتماع ديسمبر.. الفدرالي الأميركي يستعد لثمانية اجتماعات حاسمة في 2026! وزير العمل: شبهات اتجار بالبشر واستغلال منظم للعمالة المنزلية الهاربة اتفاق أردني سوري لإنعاش الأحواض الشمالية قريبا هيئة النزاهة: استعادة 100 مليون دينار سنويا عبر التحقيقات وملاحقة قضايا الفساد حماس: نتوقع حدوث محاولة اغتيال في دولة غير عربية انخفاض سعر صرف الدولار إلى ما دون 76 روبلا للمرة الأولى منذ 12 مايو 2023 آخر موعد للتقديم على المنح والقروض من "التعليم العالي" وزارة اردنية الافضل عربيا من هي ؟ العراق يتراجع عن إدراج حزب الله والحوثيين على قوائم الإرهاب