في زمن التحولات الكبرى والاصطفافات الحادة، تتجلى حقيقة الشعوب والنظم، وتنكشف نوايا الفاعلين في المشهدين الإقليمي والدولي، لا بالتصريحات ولا بالشعارات، بل بالفعل الملموس على الأرض. ومما لا شك فيه أن المحكّ الأخلاقي الحقيقي يُقاس بمدى التفاعل الإنساني مع الكوارث الكبرى، لا سيما عندما تكون هذه الكوارث من صنيعة الاحتلال، والتخاذل الدولي، والانقسام العربي.
منذ اندلاع الحرب الوحشية على قطاع غزة في أكتوبر الماضي، ومع توالي المجازر والانتهاكات التي فاقت في وحشيتها كل الحدود، وجدنا أنفسنا أمام مفارقة مؤلمة: مجتمعات عربية وإسلامية تغصّ بالغضب، لكن قلة منها فقط اختارت أن تتحرك فعلاً، بينما غالبيتها استكانت للفرجة أو اكتفت بالتنظير، أو – ويا للمفارقة – مارست جلد الذات وتفننت في انتقاد كل محاولة خجولة أو جادة لإيصال الدعم أو كسر الحصار.
وها نحن، اليوم، أمام مشهد لا يقل تناقضاً: شاحنات أردنية تحمل طحينًا وأدوية ومواد غذائية تدخل إلى غزة المحاصرة بعد شهور من الجوع والتجويع، فيُفتح علينا سيل من الانتقادات والشتائم من كل حدب وصوب. بعضهم كذّب الصور ومقاطع الفيديو، وآخرون اتهمونا بالتنسيق مع الكيان الصهيوني، وغيرهم صبّ علينا جام غضبه لأننا "لم نحرر فلسطين كاملة بعد!"
هذه الحالة من الاستلاب الفكري والازدواجية الأخلاقية، لا تُسيء فقط إلى الأردن، بل تكشف عمق الأزمة الفكرية والسياسية التي تعاني منها بعض النخب والجماهير في منطقتنا، والتي باتت تسجن نفسها في خطابات لا تفضي إلى شيء، سوى تقويض أي جهد حقيقي، أو تسفيه أي مبادرة واقعية.
الأردن وموقعه الأخلاقي والتاريخي
إن الموقف الأردني من القضية الفلسطينية ليس طارئًا ولا موسميًا، بل هو موقف راسخ بُني على عقيدة سياسية قومية، ومنظومة قيم إنسانية عميقة. فمنذ نكبة 1948، وحتى اليوم، كان الأردن في طليعة المدافعين عن حقوق الشعب الفلسطيني، في المحافل الدولية، وعلى الأرض، وفي المعابر والمخيمات، وفي الدعم السياسي والإنساني المستمر.
ما قدمه الأردن لغزة، سواء في الماضي أو الحاضر، ليس منّة، ولا استعراضًا دعائيًا، بل هو امتداد لدور مؤسسي ينطلق من ثوابت الدولة الأردنية، التي تؤمن بأن فلسطين ليست "ملفًا سياسيًا" يُفتح ويُغلق حسب المصلحة، بل هي قضية تحرر وكرامة وحقوق غير قابلة للتصرف.
واليوم، حين نرى هذا الجهد الأردني في إرسال مساعدات إنسانية عاجلة، عبر البر والجو، فإننا لا ندّعي أننا نملك عصا سحرية لحل المأساة، لكننا نؤمن أن تقديم القليل خير من التخاذل، وأن المشاركة في رفع المعاناة هي واجب أخلاقي وسياسي لا يقبل التأجيل.
ما يثير القلق ليس حجم الانتقاد بحد ذاته، بل طبيعته ومنبعه وأهدافه. لقد أصبح بعض المنتقدين أسرى لرؤية اختزالية للأحداث، تُقاس فيها المواقف السياسية بمدى "الصخب الإعلامي" و"الصراخ الخطابي"، لا بالفعل الحقيقي والتكلفة السياسية والإنسانية التي تتحملها الدول.
من السهل جدًا أن تتصدر الشاشات لتُزايد على من يقدم ولو القليل. من السهل أن تطلق الشعارات من مقاعد الوثيرة في فنادق العواصم، بينما غزة تحت القصف، وشعبها يئن من الجوع والألم. لكن من الصعب أن تتحمل تبعات الموقف، وأن تدير العلاقة بين المبدأ والواقع بحكمة، وأن تتحرك في حقل ألغام إقليمي ودولي دون أن تفقد بوصلتك الأخلاقية.
والأخطر من ذلك أن يتم تسفيه كل جهد، واغتيال كل نية صادقة، بحجة أن "الطريق إلى فلسطين لا يمرّ إلا عبر البندقية"، دون إدراك أن من يعاني في غزة الآن لا ينتظر خطابات تحررية مجردة، بل يريد دواءً لطفل، ورغيفًا لعائلة، وأملاً في الحياة.
لسنا نقول إن الأردن وحده من يتحرك، ولا ينبغي أن يكون كذلك. القضية الفلسطينية مسؤولية عربية وإسلامية وإنسانية جماعية، تتطلب توحيد الجهود والطاقات، لا توجيه اللوم والانتقاد لمن يجرؤ على الفعل وسط هذا الصمت المدوي.
هل قدّم الأردن ما يكفي؟ لا. ونحن نعترف بذلك بكل شفافية. فالمعاناة في غزة تفوق إمكانات أي دولة بمفردها، خصوصًا في ظل تعقيد المشهد الإقليمي وتداخل الحسابات الدولية. لكن هل يُعقل أن يُحمَّل الأردن وحده عبء الإغاثة، بينما دول بأموال طائلة وإمكانات هائلة تكتفي بالمراقبة أو التلاعب السياسي؟
نحن نتفهم الانتقاد حين يأتي من أبناء غزة أنفسهم، من أصحاب المعاناة الحقيقية، أولئك الذين يفقدون أبناءهم تحت الركام، وينتظرون كسرة خبز أو جرعة ماء. هؤلاء لهم الحق في الغضب، ولهم علينا واجب الصدق والتضامن. أما أولئك الذين يتصدرون المشهد بخطابات التخوين دون أن يقدّموا شيئًا، فليس لهم علينا شيء سوى أن نقول: كفوا عن المزايدة، وافتحوا أعينكم على منجزات الميدان، لا وهم الشعارات.
في عالم السياسة، لا تُقاس المواقف بالنوايا وحدها، بل بالفعل المجدي على الأرض. والسياسة، وإن كانت حقلًا معقدًا، فهي في جوهرها فن الممكن، أي القدرة على تحقيق أقصى ما يمكن ضمن ظروف شديدة التعقيد.
ولذلك، فإن الجهد الأردني، مهما كان متواضعًا، يجب أن يُقرأ ضمن سياق إقليمي ضاغط، ووسط بيئة دولية تنظر إلى غزة بمعايير مزدوجة، إن لم نقل ببرود فاضح. ومع ذلك، فإن الأردن يختار دومًا الانحياز إلى الشعب الفلسطيني، لا إلى الحسابات الضيقة.
وإذا كنا نُشعل شمعة في الظلام، فذلك لأننا نؤمن أن الصمت خيانة، وأن انتظار "اللحظة المثالية" وهم، وأن كل خطوة – ولو صغيرة – نحو كسر الحصار أو إيصال الدواء، هي فعل مقاومة بحد ذاته، لأن الحياة في غزة أصبحت فعل تحدٍ يومي.
الأردن لن يحيد عن موقفه، ولن تُثنيه سهام النقد العبثي عن أداء واجبه القومي. لا ننتظر شكرًا من أحد، ولا نسعى إلى مديح إعلامي، فهذه ليست غايتنا. غايتنا أن نقف مع المظلوم، أن نكون حيث يجب أن نكون، وأن نُبقي جذوة الضمير العربي مشتعلة في زمن تساقط فيه الكثيرون.
وفي النهاية، فإن إشعال شمعة واحدة، وسط هذا الظلام الأخلاقي والسياسي، خير من ألف لعن يطلقه العاجزون من أبراجهم العاجية. ولسان حالنا يقول: نحن نفعل ما نستطيع، فماذا فعلتم أنتم؟

