جاء الموقف الرسمي لباكستان تجاه هذه التصريحات سريعاً وواضحاً، فقد رفضت الحكومة الباكستانية، عبر بياناتٍ رسمية من وزارة خارجيتها وتصريحات كبار المسؤولين، أيّ ارتباط بالادّعاءات المتعلّقة بتعهّد نووي أو دعم عسكري موسّع لإيران، مشدّدة على أن هذه الأقوال "لا تعكس سياسة البلاد الرسمية" و"لم تصدر عن أيّ جهة مخوّلة بالقرار"2، كما أكّد وزير الدفاع، خواجة محمد آصف، عبر حسابه في "إكس" أن القدرات النووية الباكستانية موجّهة فقط إلى الدفاع عن أرضها وشعبها، وليس لهدف تصعيد سياسي أو عسكري خارجي.
في هذا السياق، يتطلّب فهم حقيقة الموقف الباكستاني الرسمي تجاه المزاعم الأخيرة العودة إلى طبيعة العلاقة التاريخية بين البلدَين، التي اتسمت بالتقلّب بين التحالف والتوجّس. فعلى الرغم من الروابط المبكّرة التي نشأت بعد استقلال باكستان، والدعم المتبادل في مراحل متفرّقة، إلا أن التحوّلات الإقليمية، ولا سيّما بعد الثورة الإيرانية، أدخلت العلاقة في مسارات أكثر تعقيداً، يغلب عليها الحذر والتوازن. لذلك، لا تنسجم التصريحات الإيرانية التي رُوّجت إعلامياً مع المسار التاريخي لعلاقات البلدَين، التي نادراً ما وصلت إلى تحالفات استراتيجية كاملة، بل ظلّت مشدودة إلى اعتبارات الجغرافيا والبراغماتية السياسية، مع حرص باكستان الدائم على تجنّب الانخراط المباشر في صراعات إقليمية قد تضرّ بعلاقاتها المتوازنة مع مختلف الأطراف، بما في ذلك دول الخليج والغرب.
نشأت العلاقة بين إيران وباكستان في أعقاب استقلال باكستان عام 1947، في ظلّ بيئة جيوسياسية إقليمية مضطربة، إذ سعت الدول الإسلامية حديثة الاستقلال إلى بناء تحالفاتٍ تحفظ توازنها أمام القوى الكبرى، ومحيطها المتنازع عليه.
ويشير أليكس فاتانكا في كتابه "Iran and Pakistan: Security, Diplomacy and American Influence" إلى طبيعة العلاقة المعقّدة بين الشاه محمد رضا بهلوي وقيادتَين سياسيَّتَين متعاقبتَين في باكستان، الجنرال أيّوب خان وذو الفقار علي بوتو، فعلى الرغم من التقارب المصلحي الظاهر، خصوصاً في فترة حكم أيّوب خان، كانت العلاقة تتقلّب بفعل تباين أولويات السياسة الخارجية، إذ كان الشاه يسعى إلى لعب دور إقليمي مستقلّ أحياناً عن التوجّهات الباكستانية، ولا سيّما في ما يتعلّق بالقضية الكردية أو العلاقة مع الهند. وفي عهد بوتو، ازدادت الاختلافات وضوحاً، خصوصاً مع توجهات بوتو اليسارية واستقلاليته المتنامية عن المعسكر الأميركي، ما أثار حفيظة الشاه الذي رأى في ذلك تهديداً لتوازن القوى في المنطقة.
ورغم هذه التوترات، استمرّت العلاقات بين البلدين في العمل ضمن أُطر تعاون أمني واقتصادي، بل توثقت أكثر في بعض المحطّات، مثل الدعم الإيراني لباكستان خلال حربها مع الهند عام 1971، والدور التنسيقي في إطار حلف سنتو. يعلّق فاتانكا على هذه المفارقة بأن العلاقة لم تكن تحكمها الرومانسية السياسية، بل البراغماتية القائمة على المصالح الإقليمية المشتركة، خصوصاً الخوف من التوسّع السوفييتي والاضطرابات في أفغانستان.
شكّلت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 لحظة تحوّل جوهري في العلاقات بين طهران وإسلام أباد، إذ انهار الإطار الأيديولوجي والسياسي الذي جمع البلدَين تحت المظلّة الغربية، لتحلّ مكانه رؤيةٌ ثوريةٌ شيعيةٌ تبنّاها النظام الإيراني الجديد بقيادة الخميني، ما أثار حذر باكستان ذات الغالبية السُّنية والمؤسّسات العسكرية المحافظة. وقد ازداد التوتر مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية. حاولت باكستان أن تحافظ على حياد ظاهري، لكنّها مالت ضمناً نحو دعم العراق لأسباب مذهبية وسياسية، ولمواجهة ما اعتبرته تمدّداً للثورة خارج حدود إيران. تبنّت باكستان موقفاً حيادياً ظاهرياً، لكنّها غضّت الطرف عن دعم دول الخليج للعراق عبر أراضيها، وركّزت سياستها الخارجية حينها في احتواء أيّ تصديرٍ محتملٍ للثورة إلى الداخل الباكستاني، خصوصاً مع تصاعد الاحتجاجات الشيعية، وتأسيس تنظيماتٍ مواليةٍ لطهران في كراتشي وبلوشستان. أثارت مساعي طهران هذه لتصدير الثورة قلقاً كبيراً لدى إسلام أباد، التي رافقها تنامي النفوذ الشيعي داخل باكستان، ومحاولات التعبئة العقائدية العابرة للحدود. وبهذا، تحوّلت العلاقة من شراكة استراتيجية إلى تقارب حذر، تغلب عليه الحسابات الأمنية والمذهبية، وتُدار غالباً بعيداً من الأضواء، ووفق توازنات دقيقة بين المصالح الجغرافية والمخاوف العقائدية.
1- الاعتبارات الأمنية، وفي مقدمها ضبط الحدود المشتركة ومكافحة الجماعات المسلّحة، ولا سيّما في إقليم بلوشستان، حيث ينشط تنظيم جيش العدل المعارض لإيران، وتتهم طهران إسلام أباد بغض الطرف عنه. 2- العامل المذهبي، إذ تؤثّر التوتّرات السُّنية الشيعية داخل باكستان في مستوى الثقة المتبادلة وتغذّي الشكوك الإيرانية. 3 - ملفّ البلوش، باعتباره قضيةً متفجّرةً تُوظّف سياسياً وأمنياً من الطرفَين، مع تبادل الاتهامات حول دعم الانفصاليين أو احتضانهم. 4- التوازن الإقليمي، إذ تسعى باكستان إلى عدم الإخلال بعلاقاتها الاستراتيجية مع السعودية والخليج، ما يقيّد تقاربها مع طهران. 5- الضغوط الدولية، خصوصاً الأميركية، التي تعيق تنفيذ مشاريع كُبرى مثل خطّ أنابيب الغاز الإيراني الباكستاني. 6- المصالح الاقتصادية، التي تشمل التجارة العابرة للحدود والتعاون في الطاقة رغم العقبات. 7 - الملفّ الأفغاني، الذي يمثّل ساحة تقاطع وتنافس في آن، خصوصاً في ما يتعلّق بدعم الفصائل والحدّ من نفوذ الجماعات المتشدّدة.
حسابات الطائفة والمذهب
يرتكز الخلاف المذهبي بين إيران وباكستان على التباين العميق بين هُويَّة النظام الإيراني الشيعي، ذي النزعة الثورية منذ عام 1979، وهُويَّة الدولة الباكستانية ذات الغالبية السُّنية والمؤسّسات الأمنية المحافظة. لم يكن هذا التباين ذا أثر مباشر في بداية العلاقة، بل تعمّق تدريجياً بعد الثورة الإيرانية، حين شرعت طهران في تصدير نموذجها الثوري الشيعي إلى الدول الإسلامية، ما أثار خشية باكستان من تفجّر صراعات داخلية على خلفية مذهبية، خاصّة في ظلّ وجود أقلّية شيعية كبيرة داخل البلاد. في المقابل، تلقّت الجماعات السُّنية المتشدّدة في باكستان دعماً سياسياً أو مادّياً من خصوم إيران الإقليميين، وفي مقدّمتهم السعودية، ما زاد في حدّة الاستقطاب، وجعل باكستان ساحةً لصراع غير مباشر بين المحورين، الإيراني الشيعي والسُّني الخليجي.
تاريخياً، شهدت باكستان تصاعداً كبيراً في التوتر الطائفي خلال ثمانينيّات القرن العشرين وتسعينياته، مع بروز جماعات مثل "لشكر جنقوي" و"سباه صحابة"، اللتين تبنّتا خطاباً معادياً للشيعة، في مقابل جماعات شيعية مدعومة من إيران مثل "تحريك جعفريا"، ما أدّى إلى تصاعد العنف الطائفي، ووقوع تفجيرات واغتيالات متبادلة12. وقد انعكس هذا التوتّر داخلياً على السياسة الخارجية الباكستانية، فباتت إسلام أباد تتوخّى الحذر في علاقاتها مع طهران، متجنّبة الانخراط في أيّ محاور مذهبية علنية، لكنّها، في الوقت نفسه، لم تتمكّن من فصل سياستها الداخلية عن الضغوط الإقليمية. وقد جعل هذا التوتّر البنيوي العلاقات بين البلدَين هشّةً ومعرّضةً دائماً للتقلّب، ولا سيّما حين يتصاعد الخطاب المذهبي في أحد البلدَين أو حين تقع أحداث أمنية تُقرأ في إطار طائفي.
منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، بدأت تتشكّل معادلة إقليمية جديدة جعلت من باكستان طرفاً مضطرّاً إلى التموضع بين محاور متصارعة، أبرزها المحوران، الإيراني والخليجي بقيادة السعودية. وبما أن باكستان ذات غالبية سنّية وتربطها علاقات استراتيجية طويلة الأمد مع السعودية والولايات المتحدة، فقد سعت إلى تبنّي سياسة توازن دقيق، تتجنّب فيها الانخراط المباشر في الاستقطاب الإقليمي، مع الحفاظ على حدّ أدنى من العلاقات الودّية مع إيران. وقد جعل هذا الحذر الاستراتيجي العلاقة مع طهران خاضعةً دائماً لمعادلة المصالح الأوسع، ولا سيّما المرتبطة بالأمن الإقليمي في الخليج وآسيا الوسطى. ولم يكن هذا التوازن ممكناً من دون تدخّلات وضغوط دولية مباشرة، خصوصاً من الولايات المتحدة، التي عملت بشكل منهجي لتقويض أيّ تقارب استراتيجي بين إسلام أباد وطهران. أحد أبرز الأمثلة على ذلك مشروع خطّ أنابيب الغاز الإيراني الباكستاني، الذي تعرّض للتجميد بعد أن واجهت باكستان تحذيرات أميركية واضحة من المضي فيه تحت طائلة العقوبات. وقد نشرت وكالة رويترز تقريراً يؤكّد أن واشنطن ربطت بين استمرار المساعدات العسكرية والمالية لإسلام أباد وتراجعها عن الاتفاق مع طهران حول هذا المشروع، في سياق ما وصفته مصادر دبلوماسية "ردعاً غير مُعلَن".
لم يتوقّف هذا النوع من الضغوط عند المشاريع الاقتصادية، بل شمل أيضاً إعادة تأطير باكستان داخل تحالفات أمنية جديدة تركز على احتواء إيران بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان. وقد دفعت هذه السياسة القائمة على التوازن القلق باكستان إلى تبنّي خطاب مزدوج، رسمي محايد تجاه إيران، وميداني أقرب إلى التحالفات المناوئة لها، ما يفسّر هشاشة العلاقة، رغم الضرورات الجغرافية والاقتصادية التي تدفع باتجاه قدر من التعاون بين البلدَين.
"طالبان" والتنافس الإيراني الباكستاني
مثّلت أفغانستان أحد أبرز ملفّات التنافس الإيراني الباكستاني، فشكّلت ساحة صراع جيوسياسي حادّ بين الطرفَين منذ الثمانينيّات، فقد تبنت باكستان موقفاً داعماً للفصائل السُّنية المدعومة من الولايات المتحدة والسعودية في مواجهة الغزو السوفييتي، بينما اتجهت إيران إلى دعم الفصائل الشيعية، ولا سيّما في منطقة الهزارة. وكشف هذا التباين مبكّراً طبيعة الصراع بين البلدَين حول هُويَّة الدولة الأفغانية المنشودة، إذ سعت كلّ دولة إلى تأمين نظام حليف يعكس انتماءها الأيديولوجي ويخدم مصالحها الإقليمية.
تعمّق هذا الانقسام خلال تسعينيّات القرن العشرين، مع صعود حركة طالبان، فقد دعمت باكستان الحركة بصراحة، بينما شعرت إيران بتهديد مباشر بسبب الخطاب السلفي والطابع المعادي للشيعة في فكر الحركة. بلغ التوتر ذروته عام 1998 بعد اقتحام "طالبان" مدينة مزار شريف، ومقتل عدة دبلوماسيين إيرانيين، ما دفع طهران إلى حشد قواتها عند الحدود مع أفغانستان، والتلويح بتدخّل عسكري مباشر. يُعلّق فاتانكا بأن هذا الحدث مثّل أخطر لحظة صدام مباشر محتملة بين إيران و"طالبان"، وتبعاً لذلك، بين إيران وباكستان، باعتبار الأخيرة الراعي الرئيس للحركة في تلك المرحلة.
ومع الغزو الأميركي أفغانستان في 2001، تبدّلت ملامح الصراع من المواجهة العسكرية إلى النفوذ السياسي غير المباشر. احتفظت باكستان بعلاقات خفيّة مع عناصر "طالبان" رغم تحالفها الرسمي مع الولايات المتحدة، بينما بدأت إيران تبني نفوذها من خلال وكلاء سياسيين وعلاقات مع الحكومة المركزية، خصوصاً في عهد رئاسة حامد كرزاي. يرى فاتانكا أن هذا الصراع لم يختفِ بعد 2001، بل اتّخذ أشكالاً أكثر مرونةً وتأثيراً، فبقيت أفغانستان ميداناً لتنافس سرديات النفوذ بين دولتَين تحاول كلّ منهما تصدير رؤيتها للنظام الإقليمي، مع إدراك كلّ طرف أن السيطرة على كابول تفتح بوابة التأثير في عموم جنوب آسيا.
تُظهر العلاقة بين إيران وباكستان تعقيداً بنيوياً متجذّراً في التاريخ، متشابكاً مع محدّدات جغرافية وأمنية ومذهبية وسياسية، تجعل من التقييم الأحادي لهذه العلاقة اختزالاً مخلّاً بالواقع. وبينما تتنوّع محطّات التقارب والتباعد بين البلدَين، تظلّ العلاقة محكومةً بمنطق التوازن الهشّ، الذي لا انقطاعَ كاملاً فيه، ولا تحالفَ استراتيجياً ثابتاً. إن فهم هذا النمط المتقلّب يتطلّب قراءةً معمّقةً ترفض السرديات الدعائية، وتستند بدلاً من ذلك إلى تفكيك السياقات وتتبّع التحوّلات، بما يسمح بإدراك كيف يتعايش التوتر والتعاون معاً داخل معادلة إقليمية معقّدة، تحكمها المصالح أكثر من المبادئ.