ليست مجرد جبال سبعة، ولا حبة قمح وسنبلة. لا قهوة بالهيل توقظ الصباحات على صوت الحياة في أغنيات العصافير وهديل الحمام، هي عمّان، كل ذاك، تغني فيتردد صداها من الرمثا الى العقبة. عمان شقيقة اربد ومعان والزرقاء والكرك والطفيلة وعجلون والمفرق وجرش. شقيقة كبرى، لا يمر مساء دون ان تطمئن عليهن ولا صبح دون ان تقول لهن صباح الخير وتفتع ذراعيها للقادمين الى حضنها.
عمان اخت دمشق وبيروت وبغداد والرياض ومدن العرب التي يسري فيها ذات الدم والتاريخ واللغة، أما القدس فتلك حكاية أًخرى. حكاية التوأمين اللذين رغم الاحتلال والاختلال في ضمير العالم لم ينفصلا. عمان لم تترك الأقصى بل وضعته على سلم اولوياتها، ولا كنيسة المهد والاماكن المقدسة وتولت الوصاية عليها حتى يرحل العابرون ويصحو العالم على الكذبة الكبرى التي اسمها «اسرائيل». فهذه الارض عربية حتى نخاع كل طفل يولد وفي فمه صرخة «الله أكبر»، وكل طفل بماء الاردن يُعمّد.
وحين يسألونها عن الهوية تقول بملء عروبتها، انا عربية، انا ملاذ الاشقاء، مأوى اللاجئين من غرب هذا الوطن العربي ومن شرقه وشماله. أنا الحضن الدافىء لاشقائي، أقتسم معهم رغيف الخبز وشربة الماء، أنا اليد التي تمسح الدمعة من عيونهم، أبتسم وأنا أتألم، وجعهم وجعي وقدري أن أتحمّل.
عمان ليست مدينة عادية. أمها الجبل وأبوها السيل، هكذا بدأت من السيل، حفرت الجبل، بنت بيوتاً من حجر. زرعت الورد في شقوق الصخر، وفي واحات التراب الذي بين جبل وجبل زرعت القمح فأكلت خبزاً ساخناً، أرغفة كالقمر، ومن ما تبقى من تراب زرعت البندورة والخيار والبامية والكوسا. لم تكن الوجبات سريعة، لا دهون ولا كولسترول ولا راتب شهر ينتهي في منتصف الشهر. هل في البيت خبز وبندورة وبصل وزيت ؟ اذن نحن في الف خير، اطبخي يا امرأة مما تيسر. بابور الكاز موجود وطنجرة الالمنيوم نظيفة كقرص فضة و..كله «مع العافية منيح».
كنا معافين أصحاء البدن والعقل والنفس، عمّان وشقيقاتها كنّ على نيّاتهن، طيبات جميلات بلا مساحيق صناعية، كحل يوسع العين ورموش ان غمزت فرحت الدنيا ورقصت. فرح طبيعي، وراحة حقيقية. تنام مبكراً بعد نشرة أخبار الثامنة والمسلسل البدوي وأحيانا العربي، وتصحو طازجة مع الشمس. الوالد الى عمله، الأبناء الى مدارسهم بهمة من يؤمن ان العلم أساس وطريق الى فوق. الفطور زيت و زعتر ان توفر أو خبز وشاي، عشر حبات فلافل بقرش او قطعة جبنة مثلثة، قطعة وليس علبة، بتعريفة، عليها صورة البقرة الضاحكة.الأكل لتقوية الجسم لا لممارسة «الفشخرة».المقياس علاماتك في آخر السنة والمعلم أبوك الذي ترعبك قسوته، قسوته من أجلك لا انتقاما منك. تهرب من الشارع ان رأيته عصراً لانه سيؤنبك غداً « ليش كنت تلعب في الشارع مبارح، ليش ما كنت تدرس؟ «
هكذا كان يُبنى الانسان ويتشكل، من نعومة أظفاره حتى يخط الشعر شاربيه و يخشن صوته. هكذا كان البناء الجديد يقام على أرضية صلبة وأساس متين لا تخر منه المياه ولا يتصدّع جدار بيت من شبه شتوة.
لا عتب على عمّان ولا على الزرقاء واربد وجرش والمفرق والكرك ومعان، فقد كبرن قبل أوانهن. موجات وراء موجات من اللاجئين العرب. الأردن اكثر دولة في العالم استقبلت لاجئين، هذا ما تقوله الاحصاءات الدولية. لكن عمّان لم تقل لأي أخ عربي «أُف» ولم تغلق بابها في وجه صاحب حاجة. هو قدرها وهي مؤمنة به. يستحق الأردن بجدارة لقب «رغيف العرب «.
....من كتابي قيد الإشهار «عمان و أخواتها الجميلات».