أخبار البلد -
تروي إحدى الطبيبات: دخلت علي في العيادة عجوز في الستينات، بصحبة إبنها الثلاثيني، لاحظت حرصه الزائد عليها، بعد سؤالي عن المشكلة الصحية وطلب الفحوصات، سألته عن حالتها العقلية، لأن تصرفاتها لم تكن موزونة، فقال إنها متخلفة عقلياً منذ الولادة !!
تملكني الفضول، فسألته من يرعاها إذن ؟ فقال لي أنا أرعاها بنفسي، قلت ولكن من يهتم بنظافة ملابسها وبدنها؟ قال أنا أدخلها دورة المياه وأحضر ملابسها وأنتظرها إلى أن تنتهي، وأصفف ملابسها وأشتري لها الناقص من الملابس، قلت ولم لا تحضر لها خادمة ؟ قال لأن أمي مسكينة مثل الطفل لا تشتكي، وأخاف أن تؤذيها الخادمة !! إندهشت من كلامه ومقدار بره، وسألته هل أنت متزوج؟ فأخبرني أنه متزوج ولديه أطفال، قلت إذن زوجتك ترعى أمك ؟ قال هي لا تقصر في ذلك، وهي تطهو الطعام وتقدمه لها، وقد أحضرت لزوجتي خادمة حتى تعينها، ولكنني أنا أحرص أن آكل معها حتى أطمئن على قياس السكر لديها!!
أمسكت دمعتي بصعوبة، وإختلست نظرة إلى أظافرها فرأيتها نظيفة، قلت أظافرها ؟ قال قلت لك يا دكتورة هي مسكينة، طبعا أنا، نظرت الأم إليه وقالت متى تشتري لي حلوى؟ فقال لها الآن نذهب لشرائها، فطارت الأم من الفرح وقامت تقفز الآن الآن، إلتفت الإبن وقال: والله إني أفرح لفرحتها أكثر من فرحة أبنائي الصغار، تظاهرت بأنني أكتب في الملف حتى لا يظهر تأثري بالأمر، وسألته أليس عندها غيرك؟ قال أنا وحيدها، لأن الوالد طلقها بعد شهر فقط، قلت إذن والدك هو من رباك؟ فقال لي لا، بل جدتي كانت ترعاني وترعى أمي !!، وتوفيت رحمها الله وعمري عشر سنوات، قلت وهل رعتك أمك في مرضك أو تذكر أنها إهتمت بك ؟ أو فرحت لفرحك أو حزنت لحزنك؟ قال يا دكتورة أمي مسكينة، فطوال عمري منذ كنت عشر سنين وأنا أحمل همها، وأخاف عليها وأرعاها !!، كتبت له عندها الوصفة وشرحت له الدواء، ثم أمسك يد أمه وقال الآن نذهب لشراء الحلوى، فقالت له: لا بل نذهب لمكة !! إستغربت فقلت لها لماذا مكة ؟ قالت حتى أركب الطائرة !!! قلت له هي ليس عليها حرج لو لم تعتمر، لماذا تذهب بها وتضيق على نفسك؟
فقال لي: ربما كانت فرحتها إذا ذهبت بها أكبر أجر عند رب العالمين من عمرتي بدونها.
خرجوا من العيادة وأقفلت بابها وقلت للممرضة : أحتاج للراحة، بكيت من كل قلبي، وقلت في نفسي هذا وهي لم تكن له أماً، فقط حملت، وولدت، لم تربي، لم تسهر الليالي، لم تتألم لألمه، لم تبكي لبكائه، لم يجافيها النوم خوفاً عليه، لم ولم ولم، ومع كل ذلك كل هذا البر!!
تذكرت أمي وقارنت حالي بحاله، فكرت بأبنائي، ترى هل سأجد ربع هذا البر !! ثم مسحت دموعي، وأكملت عيادتي وفي القلب غصة، وتذكرت قوله تعالى في سورة الإسراء: (وقضىٰ ربك أَلا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أَحدهما أو كلاهما فَلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً (23) وإخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب إرحمهما كما ربياني صغيراً) صدق الله العظيم.
أما أنا وقبل أن أكتب سطوري هنا بعد أن مررت بهذه القصة، فقد شعرت بتجدد الشوق إليك أنتي يا أمــــــــاه، يا منبع الوفاء، وعنوان البهاء، ومنارة العطف والعطاء، أتسائل في كل لحظة، ترى يا أماه؟ أين ومتى سيكون بيننا جديد اللقاء؟
إطمئني يا أماه، فما ماتت بي الأشواق، ولا إنقطعت لك صادق الدعوات، كم إشتاقت النفس إلى لمسة أمي، إلى دعابة أمي، ضحكة أمي، إلى طهي أمي، وحنان أمي، فكل شئ مختلف معك، وله طعم خــــــــــــــاص جداً معك، يا أمــــــــــــــــي.
طعم لم ولن ننســـــــــــــــــاه ما حيينا، ستبقى في النفس ذكراه العطرة الجميلة، لعل الله يمنن علينا بلقاء جديد، في عالم مختلف بعيد، يوم تقوم جميع الخلائق منتظرة حسابها من رب رحيم ودود.
تذكري دائماً بأنني أحببتك من كل قلبي يا أمــــــــــــــاه، وأرسل لجبهتك الغالية قبلة مليئة بالأشواق، تطمئنك على ثبات الوفاء، وإزدياد المحبة لك مع تقلب الظروف من شدة ورخاء، لعلها تصل إليك وأنتي في نعيم، ودار بقاء.
أمــــــــــــاه، يا منبع الصفاء، ومنارة الشموخ والكبرياء، يا شعلة منيرة في نفسي بأبهى الأنوار، مهما تنقلت في الأرض، أو حتى في أرجاء السماء، يا مقلة غالية طالما سهرت علي مخافة الأهوال والأكدار، ما كنت أظن قبل فراق حماك أن في نفسي حب لك لا يساويه حب بأي مقدار.
رحمك الله يا نوارة العين، ورفيقة القلب، يا عنوان الأشواق الدائم، وسطورها التي لا تنتهي.
كم تشتاق الروح لرضاك يا أمي، ولصادق همساتك ودعواتك.
رحمك الله، ورفع مقدارك بين الأولين والآخرين، وجعل اللقاء معك في كنف رضوان الخالق المنان، وما حرم من يقرأ هذه السطور حلو مذاق بر والديه في حياتهم، أوحتى بعد ألم الفراق.