كانت موضة "بنطلونات الشارلستون" قد لفظت أنفاسها الأخيرة تماماً، وكان أنور السادات على بعد ستة شهور وأيام من مقتله، وكانت لسعاتُ آخر الشتاء مع الشمس الحلوة تبارك الجلسة. كانت عمارة أوقاف المنيا قد اكتملت، والنيل من الشرق يشهد على الجميع ومن خلفه هامات جبال المنيا العالية المواجهة للكورنيش، ومن أسفلها مزارع الموز الخضراء تحت كتف الجبل.
في الحلم، حلم الحياة، أو حياة الأحلام، حينما كانت تشيل حكاياتنا وخطواتنا الأحلام، كانت عدسات المصوّرين أمام عمارة قديمة كلاسيكية البناء مصوّبة على درج سلالم ستهبط منها ميرفت أمين غاضبة، وتزيح خصلة من خصلات شعرها إلى الوراء، ومئات الطلّاب والجمهور في انتظار المشهد، وخاصة نزول الممثلة، عرفت أنا في ما بعد أن هذا المنزل عاشت به مع أمها الأجنبية من طبيب مصري منياوي الأصل سنوات طفولتها الأولى.
كنّا خمسة نجلس فوق نجيل كورنيش النيل تحت هذه الشجرة تماماً، وأمامنا عمارة الأوقاف تحت الاكتمال، وبجوار العمارة منزل ميرفت أمين التي نزلت من على سلالمه. كنّا خمسة طلّاب في نهايات دراستهم الجامعية وأمامهم الأرغفة والجبنة البيضاء والفول الأخضر فوق جريدة وميرفت أمين هناك تهبط السلالم وتزيح خصلة من شعرها إلى الوراء، الشجرة نفسها التي كنت أراها الآن، بعد ما قصّوا أجنحتها سنوات وقد صارت شائخة وغليظة، والجبل الذي هناك وتحت كتفه أشجار الموز شرق النيل، وهدوء النيل وصبره ومكره أيضاً.
كانت أحلامنا غير محدّدة ومتعثرة، فغنّى شحاتة مدرّس الفرنساوي في ما بعد وهو جالس مقلداً محمود شكوكو، وناتراً شعره الجميل جداً إلى الوراء: "أديني بقرش لبّ عشان أعرف أحبّ". وقال جابر، مدرّس العربي في ما بعد، معلقاً على ايجار الشقة في عمارة الأوقاف (20 جنيهاً) على أيامها: "وتاكل بقيّة الشهر حاف؟"، فسكت شحاتة، وكفّ عن الغناء تماماً. كان مرتب الخريج ساعتها يقترب من هذا الرقم، والغريب أن شحاتة كان أولنا في دخول عش الزوجية، وقلّ ضحكه معنا أو أوشك على الانتهاء، تماماً كموضة الشارلستون. وبقي حسني صامتاً ومندهشاً ويضحك كل آن على نكات شحاتة، حسني الذي استمرّ يعمل مدرساً في الكويت ربع قرن، والذي لم يترك موضة الشارلستون إلا بعدما تم قتلها بسنوات، وقد صادفته في مطار الكويت يحمل حقيبة صغيرة وحقيبة أخرى أكبر بكثير، فأخذت منه الخفيفة، أنا الذي لا أحمل أي شيء في السفر سوى حقيبة صغيرة جداً، فلاحظتُ أنها ثقيلة، فسألته عن ثقلها، فقال لأنها مليئة بالعسل هدايا للأصحاب. قلت لنفسي: "ماذا سيكون حالي لو زاد كرم الضيافة عندي وحملت عنه الكبيرة؟". والرابع كان حجازي وقد أحيل إلى المعاش من سنوات، وما زالت ابتسامته كما هي، وهندامه أيضاً وأدبه الجمّ الذي يغيظ أحياناً، وأراه كل سنوات طويلة بالمصادفة، فأحس أنّ حجازي كما هو.
للأسف، مات شحاته من سنوات، ودفنّاه في مقبرته الصغيرة، وكأنني كنتُ أراه يضحك ويغنّي، كما كان يغنّي وشعره الجميل ينتره إلى الوراء. أما لو رقص، فعند ذلك كان يخطف الألباب، فأين ذلك الأنس الذي كان؟