ما أن يبدأ أيّ نقاش بينك وبين آخر أو آخرين وتصولون وتجولون في المناقشات المستفيضة , وما تكاد أن تصل إلى نقطة التقاء – لا يريد أن يصلها محاورك – حتى تتفاجأ بأنّ من تحاوره يكيل لك إتّهامات جاهزة , فيبدأ باختيار التّهمة الّتي تناسب الحوار الذي يريد أن ينهيه . فإذا كان الحوار عن موضوع الفساد الّذي أصبح حديث الجميع فأنت ( خائن للوطن ), أمّا إذا كان الحوار المبتور عن تجاوزات في قانون ما , فأنت (عميل ) ومدسوس , وإذا انتقدت شارعا تكثر فيه المطبّات ولا يصلح للإستخدام البشري فأنت ( عاقّ لوطنك ) .
واتهامات أخرى وأمثلتها كثيرة , حاقد , انتهازي , سليط ( طويل اللسان ) , كاذب , متسلّق , وصولي .... واتهامات جاهزة على حسب الموضوع المطروح وقد تكون أفظع وقد تصل في بعض الأحيان إلى التّكفير.
جميع هذه التعابير أصبحت دخيلة على مجتمعنا , فالحوار في الماضي كان يؤدي إلى نتيجة , فإذا كانت حجّتك مقنعة يقتنع الطرف الآخر فيعترف بأنّك على حق , امّا إذا لم تتوصّل أنت والطّرف المحاور الآخر لنقطة التقاء , فكان يبادر أحد الطّرفين لتغيير الموضوع أو تأجيل النّقاش – بكلّ أدب - إلى وقت آخر . لقد نسي أو تناسى البعض في هذه الأيّام أدب وفنّ الحوار الّذي يؤدّي إلى نتيجة وهذا ما أوصلنا إلى نتيجة عبثية ( إمّا أن تكون موافقا لوجهة نظري أو أنت عدوّي ) , وفي الأصل أنّ أيّ حوار يدور بين متحاورين يجب أن يبنى على احترام الشخص المقابل واحترام وجهة نظره , فليس معنى أن أحترم وجهة نظر الآخر بأنني أتبنّاها إن لم أقتنع بها , فكيف أطلب أو حتى أتوقّع احترام من لا أحترم صاحب وجهة النّظر وطرحه.
إنّ المتتبّع أو المجرّب لهذه الحالات التي ذكرتها يعلم علم اليقين بأنّ من يستخدمون هذا الأسلوب من إطلاق الإتّهامات الجزافية لا يملكون الحجّة الدّامغة للدفاع عن وجهات نظرهم , وحتى أنّهم لا يملكون الدّليل على صدق اتهاماتهم , ولا حتى يمتلكون شخصية و ( كاريزما ) المحاور الذي يريد الوصول إلى نتيجة .
ألم يسمع ويقرأ هؤلاء قول الله تعالى في كتابه الكريم ( وجادلهم بالتي هي أحسن فإذا الّذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم ) . فالخطاب في هذه الآية الكريمة ليس موجها فقط لمعلّم البشرية جمعاء رسولنا ( محمد صلى الله عليه وسلّم ) وإنّما هو موجّه لجميع المسلمين , والجدال الموجود في الآية الكريمة هو الحوار , والحوار يجب أن يكون مبنيا على الكلمة الطيبة التي تعكس شخصية وأخلاق صاحبها , فإذا كان الحوار مبنيا على ما ورد في الآية الكريمة , فالنتيجة هي أنّك ستكسب الآخرين , حتى وإن لم يقتنعوا برأيك .
فكم حاور رسولنا الكريم سادة من أسياد قريش وسادة وعوام الأقوام الأخرى , ولكنه لم يستطع إقناعهم وإنما كسب – عليه أفضل الصلاة والسّلام – صداقتهم واحترامهم .
ألم يكن رسولنا الكريم يطلب من سادة قريش في بداية دعوته أن ( يخلّوا بينه وبين النّاس ) ؟ أي أن يسمحوا له بحوار النّاس , فمن اقتنع بالدّعوة فأجره إلى الله , ومن لم يقتنع فحسابه عند الله .
لقد حاور الرّسول وجادل لمدّة ثلاثة وعشرين عاما واتّهم ممّن ختم الله على قلوبهم بأنّه شاعر , مجنون , كاذب وساحر , وما زلنا نطلق على تلك المرحلة ( العصر الجاهلي ) , فهل انحدرنا نحن الآن إلى ما هو أدنى من ذلك العصر الجاهلي ؟
نفتقد في عصرنا هذا إلى من يجيد فنّ الإستماع , أمّا فنّ الخطابة والحديث أصبح يجيده الكثيرون , فإذا كنت مستمعا جيّدا ستكسب احترام محاورك , وبالتّالي ستحاوره بالتي هي أحسن .
لقد سئمنا الإتّهامات الّتي تطلق من هنا وهناك لمجرّد التشويه وقلب الحقائق لحاجة في نفس يعقوب , ولا بدّ لنا أن نبدأ مرحلة جديدة مبنيّة على احترام وجهات نظر الجميع واحترام أصحاب وجهات النّظر حتى نصل إلى نتيجة , نستفيد منها ويستفيد منها أبناؤنا وبالتالي المجتمع بأكمله .
وأخيرا رسالة أوجّهها إلى النّظام ومن يهادن هذا النّظام – على أخطائه – بأنّ جميع الإتّهامات التي ذكرتها في بداية هذا المقال كانت هي المسمار الأخير الّذي دقّ في نعوش الأنظمة التي سقطت . فلا أحد يريد إسقاط نظام وإنّما إصلاح للأخطاء المتراكمة منذ زمن . فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم .
عبد الغفور القرعان