يضيق المقام عن تعداد العوامل والدوافع والفواعل التي تسبّبت في كل هذا الجنون المستشري في أوصال دولةٍ جنّ جنونها منذ عام مضى على الأقل، وأدّى إلى هذه الطفرة الهستيرية في الأفعال والأقوال الصادرة تباعاً عن حكومةٍ فاشيةٍ ومعارضة بائسة، وجيش يقتُل ولا يقاتل، وقادة رأي عام، حرّضوا وعبّروا عن شهوة الانتقام، ودعوا من دون توقف إلى السحق والمحق والإبادة الجماعية بلا توقّف ولا تمييز. إضافة إلى ذلك، هناك أشخاص بشحمهم ولحمهم نفخوا على جمر الانتقام، وساهموا أكثر من غيرهم في إطلاق هذه الموجة العاتية من الجنون، وتغذية الشطط والسُّعار، بصورة أشد مما كانت عليه الحال من قبل.
لم يعُد وصم دولة الاحتلال بالجنون حكراً على أعدائها وهم كُثر، أو على من تبقّى من أصدقائها، وهم قلة قليلة بالفعل، بل صارت هذه المفردة الدّالة على فقدان العقل تتردّد على ألسنة بعض كبار كتّابها وجنرالاتها المتقاعدين، من دون أن تثير هذه الوصمة المخزية حرجاً، او تبعث على الامتعاض لدى عامة الناس المفعمين بشهوة الثأر، المتشككين بكل شيء حولهم، والمسكونين بالذعر من الغد، فبدا الجميع على وجه التقريب، منذ "طوفان الأقصى" تحديداً، يخاطبون العرب والعجم والروم وكل ملّة ونحلة بأعلى صوت: لقد جُننا يا قوم، امسكوا بنا قبل ان يفوت الوقت، فقد افاق كلب موشيه ديان المسعور جداً من سباته العميق.
بين جملة العوامل المؤسِسة لحالة الجنون الطاغية هذه، المتسبّبة بكل هذه الهستيريا التي راحت تغذّي نفسها بنفسها مع الوقت، تقف أولاً حالة الغرور المستحكمة بالجيش والدولة والمجتمع، ناهيك عن الغطرسة والعجرفة والاستعلاء، إلى جانب الامتلاء بحسّ التفوّق العرقي، والاعتقاد بنجاعة مبدأ القوة الغاشمة، وحدها، في تحقيق المعجزات. ويأتي ثانياً في مدارها الفشل في تحقيق أيٍّ من اهداف الحرب على غزّة، وتبدّد نشوة الإنجازات الاستخبارية في لبنان بسرعة، فضلاً عن انكسار الصورة وسقوط الرواية والسمعة وهيبة الردع، ويليها ثالثاً اشتداد العزلة وهبوط المكانة، وانبعاث عقدة الثمانين من العمر بقوة، وحدّث ولا حرج عن تزعزع أعمدة الخيمة (الأمن والرخاء والاستيطان والهجرة).
في ما يتصل بالأشخاص الذين وقفوا على رأس طابور من المشاركين في حفلة الجنون هذه، أحسب أن بنيامين نتنياهو، المصاب أصلاً بجنون العظمة والنرجسية المفرطة، هو المسؤول الأول عن هذه الآفة المُعدية، التي سرت كالنار في هشيم أحفاد يوشع بن نون، حيث أطاح 7 أكتوبر (2023) عرش الرجل المغرور، مزّق روحه شرّ تمزيق، أنزله من سماء حلم التماثل مع تشرتشل ونابليون إلى درك مطلوب للقضاء الدولي، الأمر الذي جنّنه، وأفقده رُشده، ودفعه دفعاً نحو درب الهروب إلى الأمام من دون توقف، من غزّة إلى بيروت ومنها إلى طهران وصنعاء. أما الثاني في الطابور الطويل فقد كان جو بايدن، الشريك الكبير، ليس في حروب نتنياهو المتنقّلة فقط، وإنما أيضاً في إذكاء جنون إسرائيل.
وبطبيعة الحال، هناك عوامل وفواعل واشخاص آخرون أسهموا، بدرجاتٍ متفاوتة، في تأجيج كل هذا السعار لكلب ديان المسعور، من بينهم الأمم المتحدة بعجزها المقيم، الاستخذاء الأوروبي السقيم، والخذلان العربي المريع، إن لم نقل تواطؤ بعضهم في الجوارين، القريب والبعيد، الأمر الذي فتح شهية أعمق للشراب المسموم، وباباً أعرض لعبور موجة جنون أعتى مما كانت عليه في البدايات، موجة اكتسحت فضاء مصحّة الأمراض العقلية، التي كان قد استولى عليها المجانين من قبل، فكان هذا كله من روافد نهر الجنون العظيم، الذي شرب منه القوم حتى الثمالة باشتهاء شديد، وظلّوا يقولون هل من مزيد؟