في كلمة لرئيس الوزراء "الإسرائيلي" نتنياهو من أمام نصب تذكاري لجنود الاحتلال الذين قُتلوا في المعارك والحروب مع الدول العربية والمقاومة الفلسطينية، كان يجاهد من أجل عدم مقاطعة أهالي هؤلاء الجنود القتلى لكلمته، وكذلك تجنُّب الشتائم والمسبات التي انهالت على شركائه في الحكومة في مواقع أخرى بن غفير وميري ريغيف وغالانت وسموتريتش وغيرهم، وتلك الكلمات أقل أنواع الشتائم والمسبات التي وجهت لهم: "زبالة" و"نفايات" وعصابة... نتنياهو الذي تحدث عن الألم والأثمان الباهظة للحرب، والعمل من أجل إعادة المخطوفين، بات على قناعة بأن ما توفر لحربه العدوانية والوحشية التي شُنت على قطاع غزة رداً على ما حصل في 7 أكتوبر، مدفوعاً بغرائز الثأر والانتقام والعنجهية، من إجماع داخلي وخارجي ودعم عسكري وسياسي واعلامي وشعبي في بداية هذه الحرب، وما كان يتمتع به جيشه من روح قتالية وكفاءة ووفرة موارد، لم يعد قائماً، بل يشهد حالة من الانقلاب والتراجع في التأييد داخلياً وخارجياً، ولكن رغم ذلك يصر على أنه على بعد خطوة من ما يسميه النصر الساحق، وأن هذه الحرب لا تحتمل التراجع، وهي حرب وجوديه بالنسبة لدولته.
الواقع يعاند دولة الاحتلال، ويقول إن هذه الحرب المجنونة بكل وحشيتها وثأريتها وانتقامها وما ارتُكب فيها من جرائم وقتل بحق المدنيين وتدمير ممنهج، لن تقرب "إسرائيل" من تحقيق أهدافها، ولا من تحقيق مقولة "النصر المطلق"، ولا تحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى المتطرفة والموجهة للداخل "الإسرائيلي" التي خرج الجيش "الإسرائيلي" لتحقيقها بدعم وتأييد شعبي غير مسبوق لا يقل عن 94%، أهداف القضاء على المقاومة وقادتها وقدراتها العسكرية والتسليحية وتدمير الأنفاق واستعادة الأسرى لدى المقاومة و"الهندسة" الديمغرافية" للقطاع عبر طرد وتهجير ما لا يقل عن 25%من أبنائه.
فنحن نجد، رغم دخول الحرب شهرها الثامن، أن تحقيق هذه الأهداف يبتعد شيئاً فشيئاً، وأزمات "اسرائيل" سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية واجتماعية، تزداد تعمقاً وكذلك هي الخلافات والصراعات والاتهامات بين المؤسستين العسكرية والأمنية من جهة، وبين المؤسسة السياسية من جهة أخرى، فهناك شبه إجماع في مستويات القرار العسكري والأمني على أن هذه الحرب باتت عبثية، والعملية العسكرية وصلت إلى نهايتها، وأنه لا يمكن استعادة الأسرى بدون صفقة تبادل، وهذا ما دفع "يورام حامو"، المسؤول عن السياسة الأمنية والتخطيط الاستراتيجي بمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، إلى الاستقالة، على خلفية "الفشل في اتخاذ قرارات على المستوى السياسي بشأن اليوم التالي" في غزة. وأيضاً سبقت استقالته استقالة مسؤول منظومة الدعاية الإسرائيلية هسبرا موشيك أفيف.
في حين يقول جنرال الاحتياط المتقاعد وقائد فرقة غزة سابقاً غادي شمني: معركة رفح هدفها سياسي؛ إنقاذ حكومة نتنياهو من السقوط من قبل شركائه من الصيهونية الدينية والقومية سموتريتش وبن غفير.
نتنياهو المسكون بـ"فوبيا" حماس، والمرتجف على مستقبله الشخصي والسياسيوالخوف من فرط حكومته من الداخل، وقضاء بقية عمره خلف جدران السجن، والمعتد بنفسه وقدراته كثيراً وصولا الى العنجهية والغرور القاتل، ظل يردد مقولة من يريد أن يمنعنا من الذهاب لرفح، يعني أنه يريد لنا الهزيمة وعدم القضاء على المقاومة وحماس، وها هو ذهب إلى رفح، ومن رفح يعود للشمال الى جباليا وحي الزيتون في دورة جديدة من القتال العنيف، كبداية للحرب من جديد، وهذا يقول إن ما تحدث عنه من قضاء على المقاومة في الشمال والوسط والجنوب مجرد وهم لا أساس له على أرض الواقع، فالخسائر في جنوده وآلياته تبلغ أرقاماً قياسية، والقول إنّ خطوة واحدة فقط تفصله عن «النصر المطلق» فقد كان الواقع يثبت أنّ هذا النصر المُدّعى بعيد جداً عن متناول اليد "الإسرائيلية"، وليس هو فقط على هذا البعد، بل أيضاً حتى شبه النصر أو الأمل بتحققه غير قائم في حيّز الواقع.
نتيناهو وأمريكا معه عالقان في قطاع غزة، فالتراجع يعني التسليم بالهزيمة دون تحقيق الأهداف، وبشروط المقاومة، وهذا يعني أن نتنياهو سيقامر بمستقبليه السياسي والشخصي، وعدم التراجع يعني أنه يغوص في رمال غزة بحرب استنزاف طويلة، ولذلك في ظل هذا الوضع المتمثل بالعجز عن التراجع والعجز عن التقدم، وجدنا نتنياهو يختار الاستعاضة عن الفشل بعمليات القتل والتدمير الممنهج التي تنتج الإبادة الجماعية، حيث 75% من منازل غزة قد جرى تدميرها، و 33 مشفى خرجت عن الخدمة بشكل نهائي، والتجويع والحصار ومنع وصول السلع الأساسية، ناهيك عن شمول مراكز الإيواء والمدارس والمراكز والمؤسسات الدولية بالقصف، بحيث لم يعد هناك مكان آمن لسكان قطاع غزة يلجأون إليه، ورغم ذلك يقول مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سولفان بوقاحة، وبتجرد أخلاقي وقيمي، إنه لا يوجد دليل على أن ما تقوم به "إسرائيل" في قطاع غزة إبادة جماعية، بل ربما هذا العدد الكبير من الشهداء، وبالذات من الأطفال والنساء، ناتج عن قيام كائنات فضائية بقتلهم.
نتنياهو وحكومته ومجلس حربه يدركون أنهم في الميدان أمام حاجز صد، وما لم يحققوه في الأشهر السبعة الماضية، لن يستطيعوا تحقيقه في معركة رفح، بل سيكون هناك المزيد من الاستنزاف والتآكل في قوة الردع.
في معارك رفح وبقية مناطق القطاع من شمالها إلى وسطها إلى جنوبها ندرك أن الاحتلال الإسرائيلي لم يستطع تحقيق أهدافه المُعلنة بالحد الأدنى، فما زالت الصواريخ حتّى اليوم تسقط في بئر السبع وعسقلان ومستوطنات غلاف غزّة، وأن "المسألة ليست فقط بفشل تحقيق الأهداف، بل هي مسألة خسائر استراتيجية".
وحتى قادة المستوطنين في مستوطنات الشمال والجنوب، يقولون بشكل واضح إن دولتهم تثبت أنها
"دولة" عاجزة وفاشلة وغير جديرة بالثقة، وهي التي وعدهم قادتها بالأمن والأمان والعودة الى المستوطنات التي هُجروا منها، ولكنهم حتى اللحظة يبيعونهم الوهم وغير قادرين على إعادتهم، ما جعل مستوطني مستوطنات الشمال، وفي ظل ما يعيشونه من مآزق وعدم استقرار ومشاكل اقتصادية واجتماعية ونفسية، وفي خطوة احتجاجية وفي الذكرى الـ76 لـ"استقلالهم"، أي ذكرى نكبة شعبنا، يقولون إنهم سيعلنون إقامة دولة الجليل مستقلة عن "دولتهم".
ما تبدو عليه صورة "إسرائيل" اليوم بلا ردع ولم تنجح في ردع المقاومة من كلّ دول المحور، وأصبحت صورتها متآكلة، ونتنياهو يعتبر أنَّه في مأزق كبير، فهو غير قادر على الانسحاب من غزّة، لأنه سيواجه التمرد، ولا يستطيع الاستمرار لأن هزيمته حتمية، وكبار جنرالات الحرب يقولون إن إصرار نتنياهو على مواصلة الحرب يجر "إسرائيل" نحو الهاوية.
الحرب اليوم على غزّة هي أكبر معركة يخوضها الشعب الفلسطيني مع "إسرائيل التي ستخرج مأزومةً من الحرب. فالمقاومة اليوم باتت تملك جرأة أكبر في المفاوضات".
إن "إسرائيل" ونتنياهو أمام خيارين لا ثالث لهما، إما العودة إلى ورقة الوسطاء، وذلك يعني الهزيمة، أو الاستمرار في الاستنزاف، ومهما كانت المعاناة والثمن الباهظ الذي يدفعه شعبنا الفلسطيني، فمعركة اليوم معركة تاريخية وتصنع إنجازًا حقيقيًا.