أظهر شكل مندوبة الولايات المتحدة بعد أن كانت الوحيدة التي رفعت يدها في المجلس كم هو بلدها معزول وناشز. بل إن أقرب حلفائه نأوا بأنفسهم عن الجريمة التي ترتكبها الولايات المتحدة والموصوفة بأنها الأبشع في تاريخ الصراعات الحديثة. وبالنسبة لأي كيان شخصي أو معنوي طبيعي، سيكون هذا الموقف المتوحد في معارضة كل العالم الممثل في المجلس –حرفيًا- مدعاة للخجل والانكماش. بل إن هذا الموقف، من دون إغفال خلفياته، سيجسد مفهوم «الدولة المارقة»، كما هو في القوانين والقواميس. لكن الولايات المتحدة– وممثلتها التي قبلت أن تضع نفسها في هذا الموقف دفاعًا عن كيان اضطهد أجدادها وما يزال يميز ضد جنسها- كانت دائمًا متجردة من العواطف البشرية الطبيعية، ومتعالية عن القانون الإنساني والدولي، وعاكفة على تبرير كل أنواع الجرائم التي ترتكبها بقناعة أنها تحمي أمنها القومي –وليذهب بقية العالم إلى الجحيم.
وبالأمس أيضًا، كانت مداخلة مندوب أميركا في «محكمة العدل الدولية» عرضًا مدهشًا للمغالطات المنطقية وتهافت الخطاب. على النقيض أيضًا من نحو 52 دولة جاءت لتقدم بيانات عن سؤال آثار الاحتلال الصهيوني على الشعب الفلسطيني، قدم أطروحته كما يلي تقريبًا: السؤال عن آثار الاحتلال على الفلسطينيين ناقص، لأنه يغفل مسؤولية الطرف الآخر. لماذا لا يُطرح هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، ومسألة الرهائن (الإسرائيليين)؟
من الواضح، حسب كل المعنيين بالسياقات المنطقية، الهجوم المذكور والرهائن هما نتيجة وليس سببًا– بل السبب- كما يقول المدافع عن قتلة الأطفال. ويفترض أن يجيب السؤال عن آثار الاحتلال عن مسألة الهجوم، والرهائن، وأن يستدعي حق الشعوب المحتلة في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل. ويُفترض أن يستدعي مسألة الأسرى الفلسطينيين بتهمة مقاومة الاحتلال المشروعة، ونقلهم إلى مناطق أخرى، وقتل وحصار وتجويع وإذلال الفلسطينيين في غزة والضفة، كمخالفات واضحة لقوانين الحرب والإنسانية ومسؤوليات سلطات الاحتلال. لكنّ مندوب أميركا يريد إقناع المحكمة، بخطاب سياسي غبي وغير قانوني، بأن الأمور تتمحور حول هجوم 7 أكتوبر والرهائن.
وبالإضافة إلى ذلك، كرر المندوب الإشارة إلى مسؤولية مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة عن حل القضية الفلسطينية. ولم يذكر أن بلده هو الذي يعيق تنفيذ كل القرارات التي اتخذتها الهيئتان، أو التي أحبطها بلده بالفيتو، لحل الصراع حتى بأدنى حد قد يخدم مصلحة الفلسطينيين.
لا شك في أن الأميركيين يعرفون أنهم يتجاوزون كل الحدود بمعارضة كل العالم والتحطيم المتكرر لكل قواعد المنطق الخطابي والعلمي والعملي. لكنهم لا يأبهون لأنهم يعرفون أن القوة هي المنطق الذي يُصرف في هذا العالم. وفي الحقيقة، لو استبدلنا كلمة «إسرائيل» في كل المرافعات التي أثيرت أمام محكمة العدل الدولية والأمم المتحدة بكلمة «أميركا» لانطبقت كل سمات جرائم الحرب، والإبادة الجماعية، وانتهاك حقوق الإنسان في حق الشعب الفلسطيني بسهولة. ففي النهاية، الكل يعرف أن الكيان الصهيوني هو مجرد العصا التي تضرب بها الولايات المتحدة، وأنه غير قابل للبقاء مطلقًا من دون القاعدة الرئيسة خلف الأطلسي.
لذلك، يقول الفلسطينيون، محقين، أنهم يحاربون الولايات المتحدة– وبالتأكيد حلفها العالمي وكل الذين تصفهم بأنهم «شركاء» في أي مكان من العالم. وقيد العرض حاليًا حرب عالمية تقريبًا تقودها الولايات المتحدة على أهل قطاع غزة، ومن ضمن عسكرها الكيان. ولا يقتصر الأمر على توفير الأسلحة الفتاكة لقتل الفلسطينيين، وإنما يتجاوز ذلك إلى ردع أنصار الفلسطينيين في الإقليم، والدفاع المستميت عن حربها التي ينفذها الكيان في فلسطين في الهيئات الدولية، والتضحية بالمزيد من صورتها الأخلاقية المتهاوية أصلًا على المسرح العالمي، والتضحية حتى بأوكرانيا في مواجهة منافس جيوإستراتيجي، وشراء ذمم كل من يمكن شراؤهم للتخلي عن الفلسطينيين والمساهمة في إخراجهم من التاريخ.
لكن الفلسطينيين، عندما يطرحون السؤال عن ذنبهم الذي اقترفوه حتى يسلط قدرهم عليهم الولايات المتحدة نفسها، لا أقل، يعرفون أكثر. إنهم يعرفون أن المسألة لا علاقة لها بالقدَر بالقدر الذي تتصل به بالصدفة. لقد صادف أن يكون الفلسطينيون في المكان الذي يصلح أكثر ما يكون لزرع كيان غريب في قلب جسم الشرق الأوسط، يمكن أن تُقام فيه قاعدة استعمارية تحبط إمكانية المنطقة العربية وتكون شرطيًا عليهم. وصادف أن يكون اليهود هم عسكر القاعدة، وأن يكون بالإمكان التحشيد بالميثولوجيا لمنح المشروع شكلًا.
إنها في النهاية ليست مسألة فلسطينيين بالتحديد. إنها مسألة كل مواطن عربي وغير عربي في هذه المنطقة. ويحدث أن الشرط لاستكمال إخضاع «الشرق الأوسط» و»تجديده» لجعل سكانه عبيدًا طبيعيين لمزرعة النفوذ الأميركي والغربي، هو إزالة الفلسطينيين من وجه القاعدة الاستعمارية الصهيونية المتقدمة. هذا هو كل شيء.
بطبيعة الحال، تعرف الشعوب العربية أن قاعدة «أكلت يوم أكل الثور الأبيض» تنطبق على ما يحدث– ليس من منطلق عاطفي أو عصبوي أو خيالي. إن الفلسطينيين هم خط الدفاع الأخير. وسيكون تحييدهم هو العربة إلى إحباط أي أمل في المقاومة والحرية.
يمكن بسهولة تصور المنطقة إذا ما انهارت المقاومة الفلسطينية ونجح المشروع الاستعماري الغربي في إخراج الفلسطينيين من التاريخ. سوف يعمل الجميع من أجل «أمن ورفاه إسرائيل» التي ستقود المنطقة بالعصا لأنها لا تعرف طريقة غير ذلك. وبالتأكيد لن تخدم مصالح الشعوب العربية التي يكمن عداؤها القلبي لهم في جوهر عقيدتها الدينية والأيديولوجية. وسوف تخدم بالتأكيد مصالح الذين يوظفونها وأرباب عملها ومصدر رزقها الذين ليست لهم أي مصلحة في تقدم العرب وتمكينهم من تحقيق إمكاناتهم.
الولايات المتحدة –والغرب الاستعماري- لم يكونوا يومًا غيورين على رفاه الشعوب العربية ولا غيرها. وهم يتعاملون مع الجميع على أنهم مرشحون طبيعيون للإبادة حيث تتحدث المصالح. ولذلك، فإن الولايات المتحدة، وحلفاءها، وكل الذين تسميهم «شركاء» في أي مكان من العالم، يُختزَلون الآن في مقعد مندوبة أميركا في مجلس الأمن أو مندوب أميركا في محكمة لاهاي ليدافعوا عن «منطقهم» الإبادي بالقوة. وهم كلهم معزولون شكلًا، قادرون موضوعًا، على تفصيل «النظام العالمي» المريع إلى أن يتبلور المشروع التحرري الجديد الذي تظهر بشائره في فلسطين وتسانده معظم شعوب العالم.
وبالأمس أيضًا، كانت مداخلة مندوب أميركا في «محكمة العدل الدولية» عرضًا مدهشًا للمغالطات المنطقية وتهافت الخطاب. على النقيض أيضًا من نحو 52 دولة جاءت لتقدم بيانات عن سؤال آثار الاحتلال الصهيوني على الشعب الفلسطيني، قدم أطروحته كما يلي تقريبًا: السؤال عن آثار الاحتلال على الفلسطينيين ناقص، لأنه يغفل مسؤولية الطرف الآخر. لماذا لا يُطرح هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، ومسألة الرهائن (الإسرائيليين)؟
من الواضح، حسب كل المعنيين بالسياقات المنطقية، الهجوم المذكور والرهائن هما نتيجة وليس سببًا– بل السبب- كما يقول المدافع عن قتلة الأطفال. ويفترض أن يجيب السؤال عن آثار الاحتلال عن مسألة الهجوم، والرهائن، وأن يستدعي حق الشعوب المحتلة في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل. ويُفترض أن يستدعي مسألة الأسرى الفلسطينيين بتهمة مقاومة الاحتلال المشروعة، ونقلهم إلى مناطق أخرى، وقتل وحصار وتجويع وإذلال الفلسطينيين في غزة والضفة، كمخالفات واضحة لقوانين الحرب والإنسانية ومسؤوليات سلطات الاحتلال. لكنّ مندوب أميركا يريد إقناع المحكمة، بخطاب سياسي غبي وغير قانوني، بأن الأمور تتمحور حول هجوم 7 أكتوبر والرهائن.
وبالإضافة إلى ذلك، كرر المندوب الإشارة إلى مسؤولية مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة عن حل القضية الفلسطينية. ولم يذكر أن بلده هو الذي يعيق تنفيذ كل القرارات التي اتخذتها الهيئتان، أو التي أحبطها بلده بالفيتو، لحل الصراع حتى بأدنى حد قد يخدم مصلحة الفلسطينيين.
لا شك في أن الأميركيين يعرفون أنهم يتجاوزون كل الحدود بمعارضة كل العالم والتحطيم المتكرر لكل قواعد المنطق الخطابي والعلمي والعملي. لكنهم لا يأبهون لأنهم يعرفون أن القوة هي المنطق الذي يُصرف في هذا العالم. وفي الحقيقة، لو استبدلنا كلمة «إسرائيل» في كل المرافعات التي أثيرت أمام محكمة العدل الدولية والأمم المتحدة بكلمة «أميركا» لانطبقت كل سمات جرائم الحرب، والإبادة الجماعية، وانتهاك حقوق الإنسان في حق الشعب الفلسطيني بسهولة. ففي النهاية، الكل يعرف أن الكيان الصهيوني هو مجرد العصا التي تضرب بها الولايات المتحدة، وأنه غير قابل للبقاء مطلقًا من دون القاعدة الرئيسة خلف الأطلسي.
لذلك، يقول الفلسطينيون، محقين، أنهم يحاربون الولايات المتحدة– وبالتأكيد حلفها العالمي وكل الذين تصفهم بأنهم «شركاء» في أي مكان من العالم. وقيد العرض حاليًا حرب عالمية تقريبًا تقودها الولايات المتحدة على أهل قطاع غزة، ومن ضمن عسكرها الكيان. ولا يقتصر الأمر على توفير الأسلحة الفتاكة لقتل الفلسطينيين، وإنما يتجاوز ذلك إلى ردع أنصار الفلسطينيين في الإقليم، والدفاع المستميت عن حربها التي ينفذها الكيان في فلسطين في الهيئات الدولية، والتضحية بالمزيد من صورتها الأخلاقية المتهاوية أصلًا على المسرح العالمي، والتضحية حتى بأوكرانيا في مواجهة منافس جيوإستراتيجي، وشراء ذمم كل من يمكن شراؤهم للتخلي عن الفلسطينيين والمساهمة في إخراجهم من التاريخ.
لكن الفلسطينيين، عندما يطرحون السؤال عن ذنبهم الذي اقترفوه حتى يسلط قدرهم عليهم الولايات المتحدة نفسها، لا أقل، يعرفون أكثر. إنهم يعرفون أن المسألة لا علاقة لها بالقدَر بالقدر الذي تتصل به بالصدفة. لقد صادف أن يكون الفلسطينيون في المكان الذي يصلح أكثر ما يكون لزرع كيان غريب في قلب جسم الشرق الأوسط، يمكن أن تُقام فيه قاعدة استعمارية تحبط إمكانية المنطقة العربية وتكون شرطيًا عليهم. وصادف أن يكون اليهود هم عسكر القاعدة، وأن يكون بالإمكان التحشيد بالميثولوجيا لمنح المشروع شكلًا.
إنها في النهاية ليست مسألة فلسطينيين بالتحديد. إنها مسألة كل مواطن عربي وغير عربي في هذه المنطقة. ويحدث أن الشرط لاستكمال إخضاع «الشرق الأوسط» و»تجديده» لجعل سكانه عبيدًا طبيعيين لمزرعة النفوذ الأميركي والغربي، هو إزالة الفلسطينيين من وجه القاعدة الاستعمارية الصهيونية المتقدمة. هذا هو كل شيء.
بطبيعة الحال، تعرف الشعوب العربية أن قاعدة «أكلت يوم أكل الثور الأبيض» تنطبق على ما يحدث– ليس من منطلق عاطفي أو عصبوي أو خيالي. إن الفلسطينيين هم خط الدفاع الأخير. وسيكون تحييدهم هو العربة إلى إحباط أي أمل في المقاومة والحرية.
يمكن بسهولة تصور المنطقة إذا ما انهارت المقاومة الفلسطينية ونجح المشروع الاستعماري الغربي في إخراج الفلسطينيين من التاريخ. سوف يعمل الجميع من أجل «أمن ورفاه إسرائيل» التي ستقود المنطقة بالعصا لأنها لا تعرف طريقة غير ذلك. وبالتأكيد لن تخدم مصالح الشعوب العربية التي يكمن عداؤها القلبي لهم في جوهر عقيدتها الدينية والأيديولوجية. وسوف تخدم بالتأكيد مصالح الذين يوظفونها وأرباب عملها ومصدر رزقها الذين ليست لهم أي مصلحة في تقدم العرب وتمكينهم من تحقيق إمكاناتهم.
الولايات المتحدة –والغرب الاستعماري- لم يكونوا يومًا غيورين على رفاه الشعوب العربية ولا غيرها. وهم يتعاملون مع الجميع على أنهم مرشحون طبيعيون للإبادة حيث تتحدث المصالح. ولذلك، فإن الولايات المتحدة، وحلفاءها، وكل الذين تسميهم «شركاء» في أي مكان من العالم، يُختزَلون الآن في مقعد مندوبة أميركا في مجلس الأمن أو مندوب أميركا في محكمة لاهاي ليدافعوا عن «منطقهم» الإبادي بالقوة. وهم كلهم معزولون شكلًا، قادرون موضوعًا، على تفصيل «النظام العالمي» المريع إلى أن يتبلور المشروع التحرري الجديد الذي تظهر بشائره في فلسطين وتسانده معظم شعوب العالم.