لا يمر يوم إلا وتبث مقاطع مصورة، سواء من جانب الجيش الإسرائيلي، أو عائلات من غزة، توضح مدى التعامل مع أرض الواقع ما بين تنكيل، والكثير من التجاوزات الأخلاقية من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي من تخريب وتصرفات استفزازية كثيرة، كلما سمحت لهم الفرصة لدخول بيوت الغزيين النازحين الذيم تركوا خلفهم ذكريات ومقتنيات، تعمد الجنود سرقتها والتباهي بذلك، من خلال بثهم مقاطع عبر مواقع التواصل الاجتماعي بشكل متكرر.
ومن كل تلك الصور الاستفزازية والمؤلمة لدى الغزيين، الاستهداف المتكرر للمقابر وعدم احترام كرامة "جثث الشهداء ونبش القبور وسرقة الجثث إلى جهات غير معلومة ولا يُعرف الهدف من ذلك"، وترك باقي الجثث متناثرة في الأرض إلى أن يعود من تبقى من أقاربهم ومحاولة دفنهم مرة أخرى.
كما تحدت الكثير من الأسرى من قطاع غزة، بعد عودتهم، عن الصور المؤلمة لطريقة التعامل اللاإنسانية واللاأخلاقية معهم خلال الاعتقال المؤقت، الأمر الذي أرجأه العديد من المختصين في علم النفس، إلى انعكاس الحالة النفسية السيئة والمرضية للجنود، في ظل ما يجدونه من مقاومة شرسة غير متوقعة من الجانب الفلسطيني، وتعرضهم للكثير من الصدمات بين صفوفهم ما بين قتيل وجريح.
"منظومة الصحة النفسية في صفوف الجيش الإسرائيلي على وشك الانهيار"، هذا التصريح الرسمي من الجانب الإسرائيلي، الذي يوضح مدى تلك الانعكاسات النفسية للجنود على التعامل مع الجانب الآخر في أرض المعركة، ما يفرز عنها "تصرفات لاأخلاقية" تحاكي الهزيمة النفسية التي يعانون منها، في ظل إجبارهم على الاستمرار في الحرب، وبخاصة البرية منها.
قبل أسابيع، أقدم أحد الجنود الإسرائيليين العائد من غزة، إلى الاستيقاظ من نومه بهلع شديد وإطلاق النار على زملائه معه في الغرفة ذاتها، بعد أن تهيأ له أنه ما يزال في ساحة المعركة وأنه يتعرض للهجوم، بحسب تقرير طبي تناول حالته بأن تصرفه جاء بعد معاناته من حالة نفسية سيئة بسبب الحرب في غزة.
عدا عن ذلك، تم رصد الكثير من الحالات التي تم فيها محاولة الانتحار من قبل جيش الاحتلال، وتزداد الحالات يوما بعد آخر، بحسب تصريحات طبية إما رسمية أو مسربة من الجانب الإسرائيلي، ومن مشافيها وعياداتها النفسية، بالإضافة إلى ازدياد عدد القتلى بين صفوف جنود الاحتلال والتي صرح عنها الجيش، تحت ما يسمى "نيران صديقة"، جاءت بعد أن يطلق الجندي على من يحيطه بشكل عشوائي دون وعي بسبب الخوف والتوتر الذي يشعر به نتيجة "التخبط النفسي الكبير".
إحدى الدراسات التي تم نشرها قبل أشهر قليلة، ومنذ بداية الطوفان، تحدثت عن أن هناك عددا كبيرا من جنود الاحتلال بعد عودتهم من المعارك يعيشون حالة صعبة من الإجهاد النفسي، وفترة من الوقت وكأنهم في ساحات المعارك، ويستعيدون كل تلك الأحداث من حولهم، وكأنها تحدث الآن، ويتولد لديهم حالة من الفوضى والصخب والخوف وشعورهم بأنهم معرضون للخطر في أي لحظة، وذلك من خلال شهادات عائلاتهم والأطباء المشرفين على حالتهم النفسية.
كما أظهرت الكثير من المقاطع والمنشورات التي يتم بثها عبر القنوات خلال طوفان الأقصى، مدى الرعب الذي ظهر على الجنود الأسرى خلال أسرهم من "المقاومة"، وهو ما يبين حجم الصدمة النفسية التي تعرضوا لها، كونهم يعيشون حالة، بحسب محللين، بأنهم "الجيش الذي لا يُقهر ولا يمكن للمقاومة أن تأسرهم أو تقتلهم".
لذا، تبدو حالة التخبط في طريقة التفجير والتدمير غير منطقية، وما هي إلا ردة فعل لهذا الواقع النفسي المرضي لديهم، ووفق إحصائيات الجيش الإسرائيلي، فإن "9 آلاف جندي الآن يتلقون العلاج النفسي في المشافي المخصصة، ومنهم من يعاني من ظروف نفسية صعبة جداً بسبب الخوف الذي لم يتمكنوا من التخلص منه"، وخاصة بعد أن تنبهت المقاومة إلى مدى تأثير الحرب النفسية في المعارك، وعملت على تطبيقها في التعامل مع الجنود في المعركة، وفي المجتمع "الإسرائيلي" في الوقت ذاته.
هذا التخبط النفسي ما هو إلا حالة متعارف عليها في علم النفس في القتال في أرض المعركة، ويتم "تجييش" عدد كبير من علماء النفس والأطباء والمعالجين النفسيين لدعم الجنود الخائفين، حتى وهم في بيوتهم وبعد عودتهم من القتال، وهنا يرى مستشار أول الطب النفسي ومختص بالتثقيف النفسي الدكتور وليد سرحان، أن الجنود الصهاينة "مضطربون، وهم لا يرغبون بالحرب ويريدون أن يعيشوا حياتهم برفاهية، أو أنهم مستعدون فقط بين الحين والآخر للقيام بهجوم بسيط هنا وهناك دون أن يعكر صفو حياتهم، كما اعتادوا منذ فترات".
ويقول سرحان، إن هذه الحرب على غزة بهذا الشكل، جعلت الأمور تخرج عن حدود السيطرة لديهم، وولدت مشاعر سيئة مختلطة من فقدان الأمل والخوف الشديد والصدمات النفسية والاجتماعية الكبيرة التي لا يستطيعون التغلب عليها، ما كان له كبير الأثر على سلوكياتهم الشخصية الفردية والجماعية وبدأت تصرفاتهم تخرج عن السيطرة، وهذا يؤثر على مجتمعهم وتكوينه، عدا عن التاثير الأخلاقي لديهم، ما يزيد من وحشية تصرفاتهم ضد الغزيين، كما بدت واضحة.
ووفق سرحان، فإن ما آلت إليه الصحة النفسية في جانب جيش الاحتلال ومجتمعهم بشكل عام، سيكون له أثر كبير كذلك في إفراز حالات نفسية متعددة، منها ما قد يصبح معقدا وطويلا، كما أن هناك تغييرات دائمة في الشخصية، وبالتالي سيكون هناك المزيد من الهشاشة داخل مجتمع الاحتلال وتفككه، وسيسارع ذلك من تصدع الفكرة الصهيونية وزوال الكيان، على حد تعبير سرحان.