فرنسا الجمال والفرح والتقدم والديمقراطية تتحول في مظاهرها العنيفة إلى بلد من بلدان العالم الثالث المتخلف، فالعنف حينما يطغى يتحول إلى حالة مرضية تعصف بكل ما هو مدني مستقر وآمن.
مظاهر الحرق والتدمير اجتاحت أحياء ومدنا عديدة في فرنسا :باريس، مارسيليا، ليون، باردو، مما يدلل وجود حواضن لهذا العنف، من قبل متطرفي الصدام، من قبل عامة الفرنسيين، وخاصة من ذوي البشرة غير البيضاء، ومن قبل الشرطة التي تعاملت مع عنف المتظاهرين واحتجاجاتهم، بعنف مماثل واعتقالات بالمئات، وكأننا في بلد آسيوي أو إفريقي أو جنوب أميركي، وليس في بلد أوروبي متطور، شكل أرضية وخلفية ومرجعية في الحفاظ على حقوق الإنسان، والحق في التعبير، والتعامل معه برفق ورفعة.
ليست المرة الأولى التي تتعامل فيها الشرطة الفرنسية بعنف يصل إلى حد القتل كما تعاملت مع نائل الفتى المغربي الإفريقي القتيل، بل هناك العديد من الحوادث المماثلة التي أدت إلى القتل، على أيدي الشرطة لشباب من ذوي أصول غير أوروبية تحت حجة عدم استجابة الشباب لتعليمات الشرطة المقيدة، وخاصة إذا كانوا أفارقة أو عرب أو آسيويين أو غيرهم، تدلل مظاهرهم على أنهم من أصول غير أوروبية، غير شقراء، عيون غير زرقاء، ومن بشرة غير بيضاء.
ما يجري في فرنسا، وربما غيرها من البلدان الأوروبية، هي نتاج عقلية الفترة الاستعمارية، خلال القرن الماضي وما قبله، فالأجانب الذين يعيشون في فرنسا هم نتاج سياسة الاستعمار، ومستعمراتها الذين تحولوا مع الوقت إلى مواطنين فرنسيين، ولكن أغلبهم من الفقراء، الذين يزيد من طريقة التعامل معهم، بأشكال ومظاهر لا تخلو من العنصرية لدى طرفي المعادلة:
1 - من قبل الفرنسيين حيث يتعاملون مع هؤلاء من ذوي الأصول الإفريقية وغيرها بالتعالي والفوقية.
2 - ومن قبل أصحاب الأصول الأجنبية حيث يشعرون بالحقد الطبقي والتمييز القومي، ولهذا يمارسون الرفض والتمرد وعدم الاندماج، وهذا ما يظهر على الأغلب في سلوك الطرفين.
لقد امتلك ملك هولندا شجاعة الاعتراف والاعتذار على سياسة هولندا الاستعمارية السابقة، بينما فرنسا وبريطانيا وغيرهما من البلدان التي كانت استعمارية متسلطة متوحشة وسارقة لخيرات البلدان والشعوب المستعمرة، ما زالت ترفض تقديم الاعتذار عما سببته من أوجاع للشعوب الإفريقية والآسيوية والجنوب أميركية.
ونحن العرب، تعرضنا، كما غيرها وربما أكثر، من أحوال الظلم والتبعية التي فُرضت علينا، ولا نزال نعاني تبعاتها في العديد من البلدان التي تعرضت للاستعمار وآثامه، وأبرز ما يمكن الاستدلال عليه فرض وقيام المستعمرة الإسرائيلية على أرض العرب في فلسطين والجولان السوري وجنوب لبنان.
نحزن لما جرى في فرنسا، ولا نحقد عليها وعلى غيرها من البلدان التي سببت الوجع والتخلف والاضطهاد لشعوبنا العربية، ولكننا ندرك بوعي، أن مظاهر العنف التي تجتاح فرنسا إنما هي نتاج سياساتها الاستعمارية السابقة، وتداعياتها التي ما زالت كامنة و»معششة» في مسامات المجتمع الفرنسي وهي بذلك تدفع الثمن، وعليها أن تتخلص من هذه الآثار والتبعات سواء في داخل فرنسا أو في تعاملها مع شعوب البلدان المستعمرة سابقاً، فهل تستطيع؟؟ هل تملك القدرة على فعل ذلك؟؟.