في سنة الإعادة، الكلمة المخففة للرسوب، قمت بتدريس اللغة الإنجليزية وأنا لم أزل طالباً في بلدة «الرحيبة» خمسون كيلومتراً شمال شرق دمشق ثم في بلدة سبينة عشرة كيلو جنوب دمشق. وبذلك وفرت على أهلي مصروف السنة التي رفض الدكتور فياض أن يمنحني ثلاث علامات فقط لأنجح فيها
الرحيبة لم تكن تختلف عن أية بلدة أردنية. أغلب أهلها فلاحون مزارعون. فيهم من الطيبة ما يجعلك تشعر أنهم أهلك ومن الكرم ما يوحي اليك أنه من شيم الفقراء لا الأثرياء، تماماً مثل أرضهم التي تجود عليهم بالقمح والزيتون والفاكهة والخضار. القمح ليس للخبز فقط بل يعدون منه الفريكة والبرغل. ألم نقل أن الدولة التي تزرع تشبع ولا تحتاج الى مساعدات ولا الارتهان لقروض البنك الدولي ؟!
دعاني والد أحد التلاميذ يوماً الى الغداء. جلسنا في غرفة كبيرة، مضافة أو ديوانية. فرشات على طرف نصف المساحة وفي النصف الثاني كانت تمتد كميات من القمح الطري ليتم تجفيفه وتحويله الى برغل لزوم «المجدرة « مع الرز. وكانت هذه الطبخة الأساسية في العزومة وحولها مخللات الخيار والفقوس والبتنجان والزهرة وحتى الليمون المحشو بالفلفل الأحمر الشطة وطبعاً الزيتون والفجل والبصل الأخضر. كل ما على المائدة الأرضية كان من خير الأرض. كانت أطيب أكلة أكلتها ولم يزل طعمها في فمي بعد كل هذه السنوات. خاصة أنها كانت مرفقة بطيبة ذلك الفلاح
حتى تذهب الى الرحيبة من دمشق عليك أن تذهب الى سوق الهال عند السادسة صباحاً حيث موقف التكسيات. هناك تجد التاريخ في طراز المحلات ذات الأقواس والأبواب الحديدية الكبيرة والأقفال المحكمة. تجد بضعة فنادق تاريخية من العصر العثماني أي قبل الاستعمارين الفرنسي والبريطاني للامبراطورية الاسلامية العثمانية كنتيجة للحرب العالمية الأولى والثانية
فوجئنا بلافتة قديمة صدئة لكن الكتابة عليها لم تزل واضحة « فندق فلسطين وشرق الأردن». توقفنا عندها و..تحسرنا على أيام كانت بلاد الشام واحدة موحدة ولم يكن الانجليز والفرنسيون المنتصرون في الحرب العالمية قد اقتسموا تركة الامبراطورية العثمانية الاسلامية ومنها وطننا العربي وغرزوا الخنجر الصهيوني في جسد الأمة
رائحة سوق الهال لم تكن فقط «هال» أو «هيل» بل مزيجا من روائح اليانسون والكمون والحمص والفول والعطور. كل شيء كان في الهال يذكرك بماضي بلاد الشام. إنها نفس الأسواق القديمة في السلط ونابلس ويافا وحمص وحلب وبيروت
غالباً ما تجد التكسيات خلف بعضها بانتظار الركاب. تكسيات من الأربعينيات ذات التسعة مقاعد، راكبان بجانب السائق، وكل ثلاثة ركاب بجانب بعض في المقعدين الخلفيين معظمهم من أهل المدينة أو من القطيفة المجاورة. جميلون بملابسهم الفلاحية ولهجتهم المحببة. وأحاديثهم عن الأرض والموسم والقمح والشعير. فيهم رائحة الزعتر والشنجليش وفي سلالهم تحويجة الهال من متِة وبقوليات وبهارات. سجائرهم اما ناعورة او شرق أو...لف من العلبة وقداحة الكاز. التدخين مسموح فالسائق نفسه لا تنطفئ سجائره طيلة الطريق التي تمتد ساعة تقريباً لا تشعر بها وأنت تستمع لأحاديث الركاب وتستمتع بالمزروعات والأشجار على جانبي الطريق
في تلك الفترة كنت في الثانية والعشرين من عمري. شاب ذو شعر طويل وسوالف عريضة تصل الى مستوى أسفل الأذن، بنطلون شارلستون عريض من الأسفل، قميص ضيق وحذاء كعب عالٍ قليلاً. وكانت كلها موضة تلك الأيام. كنت بطبيعتي جاداً جداً في تعليم التلاميذ اللغة الإنجليزية بحزم. المدرسة، كما في معظم مدارس القرى، كانت مختلطة، بنات وأولاد
احدى الطالبات، وكانت أطولهن وأكبرهن، يبدو أنها التحقت بالمدرسة متأخرة، وتجلس في المقعد الخلفي، يبدو أنها أعجبت بالأستاذ الصغير. ضبطُها مرة سارحة وأنا أشرح الدرس. صرخت بها « قفي. أعيدي ما قلته قبل قليل « تلعثمت ولم تعرف و...غمزتني !
قلت ربما لم تقصد. لكنها كانت تتعمد أن تتأخر وتأتي إلي وتسألني عن شيء ما في الدرس قائلة بدلال « أستاز ما فهمت هاي النقطة اشرحلي ياها». وبنصف حسن نية كنت أشرح لها. تتظاهر أنها فهمت، لكنها أصلاً لم تسأل لأنها لم تفهم بل لتقترب من الأستاز ! وتكررت أسئلتها وغمزاتها لكن ملاكي غلب شيطاني وأوقفتها عند حدها ليس تعففاً بالكامل بل تخوفاً من أن يقتلني أهلها وأهل البلدة !
وتلك حكاية أخرى
الرحيبة لم تكن تختلف عن أية بلدة أردنية. أغلب أهلها فلاحون مزارعون. فيهم من الطيبة ما يجعلك تشعر أنهم أهلك ومن الكرم ما يوحي اليك أنه من شيم الفقراء لا الأثرياء، تماماً مثل أرضهم التي تجود عليهم بالقمح والزيتون والفاكهة والخضار. القمح ليس للخبز فقط بل يعدون منه الفريكة والبرغل. ألم نقل أن الدولة التي تزرع تشبع ولا تحتاج الى مساعدات ولا الارتهان لقروض البنك الدولي ؟!
دعاني والد أحد التلاميذ يوماً الى الغداء. جلسنا في غرفة كبيرة، مضافة أو ديوانية. فرشات على طرف نصف المساحة وفي النصف الثاني كانت تمتد كميات من القمح الطري ليتم تجفيفه وتحويله الى برغل لزوم «المجدرة « مع الرز. وكانت هذه الطبخة الأساسية في العزومة وحولها مخللات الخيار والفقوس والبتنجان والزهرة وحتى الليمون المحشو بالفلفل الأحمر الشطة وطبعاً الزيتون والفجل والبصل الأخضر. كل ما على المائدة الأرضية كان من خير الأرض. كانت أطيب أكلة أكلتها ولم يزل طعمها في فمي بعد كل هذه السنوات. خاصة أنها كانت مرفقة بطيبة ذلك الفلاح
حتى تذهب الى الرحيبة من دمشق عليك أن تذهب الى سوق الهال عند السادسة صباحاً حيث موقف التكسيات. هناك تجد التاريخ في طراز المحلات ذات الأقواس والأبواب الحديدية الكبيرة والأقفال المحكمة. تجد بضعة فنادق تاريخية من العصر العثماني أي قبل الاستعمارين الفرنسي والبريطاني للامبراطورية الاسلامية العثمانية كنتيجة للحرب العالمية الأولى والثانية
فوجئنا بلافتة قديمة صدئة لكن الكتابة عليها لم تزل واضحة « فندق فلسطين وشرق الأردن». توقفنا عندها و..تحسرنا على أيام كانت بلاد الشام واحدة موحدة ولم يكن الانجليز والفرنسيون المنتصرون في الحرب العالمية قد اقتسموا تركة الامبراطورية العثمانية الاسلامية ومنها وطننا العربي وغرزوا الخنجر الصهيوني في جسد الأمة
رائحة سوق الهال لم تكن فقط «هال» أو «هيل» بل مزيجا من روائح اليانسون والكمون والحمص والفول والعطور. كل شيء كان في الهال يذكرك بماضي بلاد الشام. إنها نفس الأسواق القديمة في السلط ونابلس ويافا وحمص وحلب وبيروت
غالباً ما تجد التكسيات خلف بعضها بانتظار الركاب. تكسيات من الأربعينيات ذات التسعة مقاعد، راكبان بجانب السائق، وكل ثلاثة ركاب بجانب بعض في المقعدين الخلفيين معظمهم من أهل المدينة أو من القطيفة المجاورة. جميلون بملابسهم الفلاحية ولهجتهم المحببة. وأحاديثهم عن الأرض والموسم والقمح والشعير. فيهم رائحة الزعتر والشنجليش وفي سلالهم تحويجة الهال من متِة وبقوليات وبهارات. سجائرهم اما ناعورة او شرق أو...لف من العلبة وقداحة الكاز. التدخين مسموح فالسائق نفسه لا تنطفئ سجائره طيلة الطريق التي تمتد ساعة تقريباً لا تشعر بها وأنت تستمع لأحاديث الركاب وتستمتع بالمزروعات والأشجار على جانبي الطريق
في تلك الفترة كنت في الثانية والعشرين من عمري. شاب ذو شعر طويل وسوالف عريضة تصل الى مستوى أسفل الأذن، بنطلون شارلستون عريض من الأسفل، قميص ضيق وحذاء كعب عالٍ قليلاً. وكانت كلها موضة تلك الأيام. كنت بطبيعتي جاداً جداً في تعليم التلاميذ اللغة الإنجليزية بحزم. المدرسة، كما في معظم مدارس القرى، كانت مختلطة، بنات وأولاد
احدى الطالبات، وكانت أطولهن وأكبرهن، يبدو أنها التحقت بالمدرسة متأخرة، وتجلس في المقعد الخلفي، يبدو أنها أعجبت بالأستاذ الصغير. ضبطُها مرة سارحة وأنا أشرح الدرس. صرخت بها « قفي. أعيدي ما قلته قبل قليل « تلعثمت ولم تعرف و...غمزتني !
قلت ربما لم تقصد. لكنها كانت تتعمد أن تتأخر وتأتي إلي وتسألني عن شيء ما في الدرس قائلة بدلال « أستاز ما فهمت هاي النقطة اشرحلي ياها». وبنصف حسن نية كنت أشرح لها. تتظاهر أنها فهمت، لكنها أصلاً لم تسأل لأنها لم تفهم بل لتقترب من الأستاز ! وتكررت أسئلتها وغمزاتها لكن ملاكي غلب شيطاني وأوقفتها عند حدها ليس تعففاً بالكامل بل تخوفاً من أن يقتلني أهلها وأهل البلدة !
وتلك حكاية أخرى