حديثو نعمة متهمون بالارتكابات، ورهطُ متملقون صُنّعوا على أيدي الأجهزة و«حزب الله» تسلطوا، يعيشون حالة إنكار، فيهدد أداؤهم اللاأخلاقي المتنكر للمصالح الوطنية بعزلة تخنق لبنان، وتدفع إلى انفجار أكبر! وجدت السلطة اللبنانية نفسها تحت ضغط المطالبات بإقالة رياض سلامة، فطرح رئيسها القضية مكرهاً. لكن حكومة «الثورة المضادة» عوض أن تقيل سلامة، أقصت المحامين الفرنسيين المتطوعين للعمل مع «هيئة القضايا» اللبنانية، لمتابعة الأموال المتهم الحاكم باختلاسها لضمان حق لبنان بها، فهدد القرار الحكومي إمكانية استعادة الأموال المنهوبة والمحتجزة، وهو في أسوأ أوضاعه المالية. أمر يوجب ملاحقة الوزراء الذين لم يعترضوا بتهمة عرقلة القضاء تغطية للجرائم المرتكبة! إنها قمة اللامسؤولية في الأداء الرسمي برزت في تجاهل تداعيات مذكرات التوقيف الأوروبية، وإدراج سلامة من جانب الإنتربول في خانة كبار المجرمين المطلوبين. كما بعد تبلّغ لبنان أن 17 دولة بينها أميركا تتحرى عن مصادر أموال للحاكم بعدما تبيّن وجود حسابات له في مصارفها... إلى تجميد وحجز أصوله. لم يعد المطلوب الإعفاء أو كف اليد، بل البديهي حث الجهات المعنية على توقيفه وإحالته إلى محكمة الجنايات، ليس بسبب الجرائم المالية المتهم بارتكابها في الخارج وحسب، بل بسبب ما ارتكبه أساساً بحق اللبنانيين! وفق التحقيق القضائي اللبناني، الذي صودر، كانت «هيئة القضايا» في وزارة العدل، وهي الجهة المخولة قانوناً بـ«الدفاع عن مصالح الدولة»، قد ادعت على سلامة وشركائه بتهم «ارتكاب جرائم اختلاس مالٍ عام وإثراء غير مشروع وتزوير وتهرب ضريبي وتبييض أموال». وطلبت توقيف المدعى عليهم والحجز على أموالهم لمصلحة الدولة وإحالتهم إلى محكمة الجنايات! الادعاء جُمد وتم إهماله عمداً! لكن تحرك «هيئة القضايا» وجّه صفعة لوزارة المال التي تعامت عن مسؤوليتها اتخاذ إجراءات حماية حقوق الدولة المالية.
أوحى السياق العام لهذه القضية أن الجهات التي وفّرت لسلامة شبكة أمانٍ وحماية قضائية، مندفعة إلى أبعد الحدود في التغطية على الجرائم المرتكبة مهما كانت تكلفتها، الأمر الذي دفع «المرصد الأوروبي للنزاهة» إلى التساؤل: «هم خائفون على أنفسهم أم على البلد؟»! وكانت أبرز الأدلة تسخير القضاء خدمة لهذا المنحى، وتمثل ذلك في جلسة «استماع» سريالية للحاكم انتهت إلى تحايل قضائي عنوانه منعه من السفر، للإيحاء شكلاً بمتابعة الملف، وواقعياً تركه يتنعم في جنة الإفلات من العقاب الآمنة للمحكومين والفارين من العدالة! إنه تسويف وشراء الوقت وعدم التفات إلى تداعيات أداء معيق لمكافحة الفساد. فمقابل خروج نائب رئيس الوزراء عن الإجماع وطلبه إقالة سلامة لأن «الحاكم ينبغي أن يكون فوق أي شبهة»، ومحذراً من توقف المؤسسات الدولية والبنوك المراسلة عن التعامل مع المصرف المركزي ما يعني اختناق البلد، كلفوا وزير المال، ممثل «الثنائي المذهبي»، رفع تقرير «عن أثر هذه القضايا... على عمل المصرف المركزي»، علماً بأنه سبق له أن أبلغ اللقاء التشاوري قبل أيام أنه لا مصلحة لأن «نشيل سلامة بهذه المرحلة»(...) ولئن استبق ميقاتي الجميع بإعلان عدم جواز تغيير الضابط أثناء المعركة، وواقعياً خسر لبنان معاركه وموجوداته، رأى مستشاره الوزير نحاس أنه «حتى الآن اتهامات واعتراضات... ما في أحكام ثابتة بعد»! يعني لا قيمة قضائية لادعاء «هيئة القضايا»، ولا معنى لمذكرات التوقيف الأوروبية ومطاردة الإنتربول للحاكم! ما استمر سلامة في موقعه 30 سنة، لولا حماية ثابتة تأمنت له وغطت أدواراً خطيرة أُنيطت به، والسؤال: مَن المستفيد الأبرز؟ فإذا اعترفت خطة «التعافي» الحكومية بأنه منذ عام 2011 بدأ السطو على الودائع وتفاقم بعد الـ2015، فإن سلامة هو من نظّم هذه العملية، وعمد بعد الثورة إلى تغطية تهريب المليارات! ابتدع «الدعم» للمحتكرين والدويلة، وفرض «تعاميم» لا قانونية ذوّبت نحو 40 ملياراً من الودائع، إلى «صيرفة» واقتصاد «الكاش»، ليهدر نحو 30 مليار دولار، كانت كافية لكبح الانهيار وإطلاق سياسة مالية بديلة، لو تمكنت الثورة من فرض حكومة مستقلة قادرة على استعادة ثقة الناس.
فاقمت هذه السياسات المديونية والعجز والتضخم والإفقار، وخلقت أثرياء جدد. تضخم الاحتكار وتوافر تمويل إضافي للدويلة فازدهر «القرض الحسن» مقابل خفوت المصارف، فكان تأكيد حسن نصرالله أن ليس من صلاحية الحكومة إقالة سلامة والمسألة عند القضاء! والقضاء مضمون! إن تقاطع المصالح بين «الحزب» وسلامة قديم، وأول الأدلة افتضاح دور البنك «اللبناني الكندي» عام 2011 الذي سُحبت رخصته بعدما أكدت الخزانة الأميركية أنه مركز لغسل أموال التهريب بمعدل 100 مليون دولار شهرياً! توازياً مع مخطط مشغول لتبرئة سلامة وعفو عن الجرائم المالية، لحماية المتسلطين من أن تفضحهم المحاكمات، يدخل الشغور الرئاسي الشهر الثامن. كل المطروح من أطراف نظام المحاصصة وجوه لا يعول عليها لاحترام رأي عام ولا أصول دستورية ومصلحة وطنية. ما يعمل له «حزب الله» هو ضمان دوام الحال مع ترئيس مرشحه سليمان فرنجية في تحدٍّ للأكثرية التي يواجهها فرنجية، متباهياً بالالتصاق بالنظام السوري وحماية فارين من العدالة! والأكيد لا خطة «ب» لمرشحٍ بديل بالنسبة لـ«الثنائي المذهبي»، وما على «المكابرين» يقول محمد رعد إلا أن «تفتحوا حواراً مع فرنجية فتأخذوا منه وتعطوه والوقت يضيق»! مقابل دعوة «حوار» البصم على خيار محدد، تقدم خيار الآخرين ترشيح جهاد أزعور الذي كان كوزير للمال من رعاة سلامة والنهج الذي جعل لبنان أرضاً يباساً غير قابل للعيش! فرفض «الثنائي المذهبي» الخيار، الذي جمع «معارضة» النظام ونواب «تغيير» اختاروا اصطفافاً طائفياً والوزير باسيل، الرمز الأكثر وقاحة بين الذين فضحتهم الثورة! ولافتٌ أنه لا يعرف عن أزعور غير قوله إنه لن يتعاطى بمسألة السلاح غير النظامي بل بالأمور الاقتصادية! ولنتذكر: سابقاً عون أو الشغور، واليوم فرنجية أو الشغور. إنها الترجمة للخلل الوطني في موازين القوى!