امتلاك الخيار وصناعة القرار
في سياسة الدولة العربية الإسلامية الحديثة
في الحياة قد تتوافر لدينا خيارات وبدائل متعددة إزاء موضوع ما، مما يتيح لنا الفرصة لتقييم هذه الخيارات ودراسة البدائل ومن ثم فرز الخيارات الممكنة، وبالتالي فالخيار الذي نقع عليه يعد قرارا نتخذه بمحض إرادتنا، ولكن أحيانا كثيرة يحدث وأن نحرم من رفاهية الاختيار، ونجبر على الانصياع لما هو متاح أمامنا ومتوافر لدينا، وهنا تضيع منا فرصة صنع القرار وتحكيم الإرادة.
يجمع علماء النفس على أن الإنسان قادر على تشكيل حاضره ومستقبله من خلال خياراته، إلا أنهم يختلفون في أهمية المسببات والمثيرات التي تدفع بنا تجاه خيار محدد أو سلوك معين، ما بين الدافع والحافز الذي يدفع بنا نحو اقتراف السلوك، وبين الهدف والمقصد الذي يشدنا نحو ممارسة السلوك.
يعتقد "آلفرد آدلر" مؤسس علم النفس الفردي أن لكل إنسان منا هدف يسعى وراء تحقيقه، وغاية تتمحور حياتنا حول إنجازها، ويرى أن فهم هذا الهدف هو المهم لفهم سلوكات الأفراد، وتفوق أهميته أهمية فهمنا لدوافع ومسببات السلوك سواء الداخلية أو الخارجية كما يعتقد "سيجموند فرويد"، وهو أجدى نفعا من مبادئ التعزيز والثواب والعقاب التي يؤمن بها أتباع المدرسة السلوكية أمثال "سكنر" و"واطسون"، وبالرغم من أن كل إنسان منا هو شخص متفرد ومتميز عن غيره في اهتماماته الاجتماعية بناء على نمط حياته الخاص به، والذي تكوّن من خلال خبرات وتجارب طفولته ومراهقته مع الأسرة والمدرسة والأقران، إلا أننا نشترك جميعا بوصفنا كائنات اجتماعية، في غاية سامية وعالية واحدة نتوق إلى تحقيقها ألا وهي هدف الانتماء.
إلا أن البعدين السياسي والاجتماعي لقضية الانتماء في الوطن العربي مسألة شائكة ومعقدة، نظرا لخصوصية التجربة التاريخية والجغرافية التي مرت وتمر بها المجتمعات العربية عموما، مما يولد تساؤلات ملحة حول حقيقة انتماء الإنسان العربي المسلم، ودور هذا الانتماء في الأزمات السياسية العربية المتتالية والمتكررة.
أولا: الانتماء إلى الأرض والوطن أم إلى القبيلة والنسب؟
مشروعية هذا التساؤل مستمدة من حقيقة تكوين المجتمعات العربية المنحدرة من أصول بدوية رعوية، تعتمد في حياتها وأمنها وطعامها على حماية العشيرة والانضواء تحت لوائها، لمجابهة الأرض القاحلة المجدبة القاسية، ولا يظن البعض أننا في المجتمع المدني المديني اليوم قد تخلصنا من رواسب هذا الفكر الذي ترسخ في الوعي العربي الجمعي منذ زمن بعيد، وما زال يحرك ويوجه ويضبط خياراتنا وبوصلة انتماءاتنا وتوجهاتنا، ذلك أن القبيلة على مدار الأعوام ونتيجة للحياة الرعوية المتمثلة في الترحال والتنقل أصبحت هي الثابت، وهي مظلة الأمن والأمان، في الوقت الذي غدت فيه الأرض عاملا متغيرا وغير أساسيا في معادلة الحياة الرعوية، بل لقد كانت تتحول أحيانا ببخلها ومخاطرها إلى عدو للإنسان وحياته.
ثانيا: الانتماء إلى الأرض والوطن أم إلى القومية والعرق؟
طبيعة الجغرافيا الصحراوية الممتدة في الأراضي العربية، فرضت علينا حضارة تختلف بصورة جذرية في مكوّناتها وطبيعة نشأتها عن حضارة السهول، بما في الأولى من عوامل انفلات وتنقل وترحال تفرضه متطلبات البقاء، بشكل يناقض الثانية بما فيها من عوامل ثبات واستقرار وديمومة، وهذه الصحاري العربية المفتوحة فرضت بامتداداتها الشاسعة، شروطها وهيمنتها على تاريخ وحاضر الوطن العربي ومجتمعاته وسياسته، مما أدى إلى تضارب في فكر المواطن العربي، وتشويش في ميوله الوجدانية وانتماءاته العاطفية، بين العرق الذي انحدر منه أساسا أو الأرض الذي هاجر منها آباؤه وأجداده، مقابل الأرض الذي نشأ وترعرع فيها وأصبحت موطن ذكرياته ومستقبل أبنائه، مقابل النزعة القومية التي تربط أطراف الوطن العربي بنسيج قومي عروبي أحيانا وإسلامي أحيانا أخرى.
ثالثا: الانتماء إلى القومية العربية أم إلى الدولة الإسلامية؟
لقد جاءت الحضارة الإسلامية بمفهوم جامع يقوم على بناء دولة إسلامية تنصهر فيها الاختلافات العرقية والأيديولوجية لمصلحة الدين والدولة، إلا أن الدولة الإسلامية منذ تأسيسها مرورا بالخلافات الأموية والعباسية والفاطمية والعثمانية، وحتى يومنا هذا فشلت في تحقيق هذه الغاية، وما تاريخ الدول الإسلامية المتعاقبة بين ظهور وأفول مستمرين ونشوء وتحلل متواصلين، إلا دليلا واضحا على صعوبة انقياد المجتمعات العربية المتشرذمة بين عصبيات متصارعة وقبائل متناحرة، تحت لواء واحد يحكمها ويقودها ولو باسم الدين والإسلام، مما ساعد على تركيز الوعي العربي الجمعي على فكرة الولاء والانتماء المجرد للإسلام والأمة الإسلامية، بعيدا وبشكل منفصل عن الانتماء لدولة الإسلام التي لم تعرف استقرارا أو ثباتا أو حدودا أو حتى استمرارية مكانية وزمانية.
رابعا: الانتماء إلى الدولة أم إلى السلطة؟
يبدو هذا التساؤل للوهلة الأولى غير منطقيا مقارنة بالكراهية المستحكمة والعداء المستفحل والمعلن بين الأنظمة الحاكمة العربية الحالية وبين شعوبها المقموعة منذ زمن، إلا أن مفهوم الدولة لدى العرب المسلمين يختلف جذريا عنه لدى حضارات العالم ودوله، ذلك أن الدولة لدى الشعوب والحضارات الأخرى مرتبطة بمفهوم الدولة المؤسسي الثابت والدائم والمتواصل، والشامل للشعب والأرض والتاريخ الممتد المتراكم لحضارة الدولة وكيانها السياسي، وهذا لا ينطبق بتاتا على الدولة العربية الإسلامية التي ارتبطت منذ نشأتها بعناصر السلطة الحاكمة فيها، سواء في التاريخ الإسلامي القديم أو تاريخ الدول العربية الإسلامية المعاصرة.
هذه التساؤلات الصريحة والمباشرة حول انتماءاتنا كشعوب عربية تبرر حرمان المواطن العربي من ترف الخيار السياسي، في ظل معطيات صارمة وجامدة مثلت وما زالت تمثل جدارا صلدا أمامنا كمجتمعات، ولا تقتصر على كونها عقبات ومعيقات تحول دون قدرتنا على اتخاذ القرار كأفراد.
وقد كان المفكر والفيلسوف الاجتماعي إبن خلدون من أوائل من أشاروا إلى هذه الظواهر المختلفة والمجتمعة في مقدمته: "في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك، والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الأمم... فصعب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم التوحش"، وقوله: "خروج العرب عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة، فهم متنافسون في الرئاسة وقل أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره... فيتعدد الحكام والأمراء... فتبقى الرعايا في فوضى...".
هذه الزاوية المظلمة والمؤلمة التي اخترنا أن ننظر من خلالها إلى الواقع العربي السياسي، هي زاوية تتجاوز البكائيات والمراثي والإحباطات المتراكمة حول قبور ضحايا الأنظمة الحاكمة المستبدة والمؤامرات الماسونية الدولية، للوقوف على مكوّنات تاريخية وواقعية ومجتمعية وجغرافية شكلت في تشابكها وتقاطعها جوهر الوضع العربي السياسي المتأزم المزمن، وهذا هو الخيار الوحيد المتبقي أمامنا والقادر على أن يفتح لنا أبواب نلج من خلالها إلى خيارات أخرى ممكنة ومثمرة.
يقول د. محمد جابر الأنصاري في كتابه "التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام": "ما الأزمات السياسية العربية المعاصرة إلا امتداد واستمرار لأزمة سياسية تاريخية مزمنة، ظلت معتملة في بنية الحضارة العربية الإسلامية منذ الحروب الأهلية في العهد الراشدي، وبالتالي فمن أهم متطلبات تصحيح الوعي بالذات وبالواقع العربي المجتمعي والسياسي، أن ينضج علم اجتماع عربي بالمعنى المنهجي والمعرفي، بحيث يكون من أبرز أولوياته التوجه نحو بلورة علم اجتماع سياسي عربي، قادرا على تفسير معضلات السياسة العربية ومتجاوزا للنظريات والأيديولوجيات المستخلصة من واقع مجتمعات وحضارات أخرى، ذلك أن جميع المعسكرات العربية من أنظمة ومعارضة ويمين ويسار وسلطة وشعب، هي تضاريس ونتوءات سياسية تعكس في ظاهرها المختلف طبقات جيولوجية مشتركة في العمق ومتوحدة في الجذور ومتماثلة في المكوّنات".
تصحيح الوعي بالذات هو الخيار الذي سيخلّصنا من عنق الزجاجة، وسيتيح لنا إمكانية الانعتاق من أسر مطرقة الركون للاستبداد والظلم، وسندان الفتنة والحروب الأهلية والطائفية والمذهبية.
يتوجب علينا اليوم وفي غمرة الفرحة بزهور ونسيم وشمس الربيع العربي، أن نعيد النظر في أسس بناء الدولة العربية، بحيث نقوم بإعادة هيكلة لمقومات الدولة بشكل تستند الدولة فيه على أوتاد الشعب وركائز المؤسسات ودعائم منجزات ومكتسبات الدولة التراكمية، لنتخلص من الأطر السياسية التي قامت على مدار عقود وقرون بدمج قوام الدولة بالسلطة الحاكمة فيها، بصورة تماهت معها الدولة بالحكومة، وأصبح استمرار الدولة متوقفا على بقاء النظام الحاكم فيها، لدرجة جعلتنا نخشى على الدولة من الانهيار بسقوط نظامها، وهذا وضع تفردت فيه الدول العربية عن سائر دول وحضارات العالم، وقد ساعد على ترسخه الفراغ السياسي الذي سينتج عن سقوط النظام المنقض على كل أطراف المعادلة وأذرع القوى فيها، في غياب واضح لبديل سياسي حزبي وطني ثوري، متسلحا بالمصداقية، وببرنامج عملي وطني، ورؤيا واضحة، وأهداف وقيم ثابتة، ناهيك عن امتلاكه لهيكلة منظمة ومتماسكة وأدوات تغيير قيّمة وفاعلة، قادرة على كسب الرأي العام وتوجيه المسيرة الوطنية نحو الإصلاح.
في سياسة الدولة العربية الإسلامية الحديثة
في الحياة قد تتوافر لدينا خيارات وبدائل متعددة إزاء موضوع ما، مما يتيح لنا الفرصة لتقييم هذه الخيارات ودراسة البدائل ومن ثم فرز الخيارات الممكنة، وبالتالي فالخيار الذي نقع عليه يعد قرارا نتخذه بمحض إرادتنا، ولكن أحيانا كثيرة يحدث وأن نحرم من رفاهية الاختيار، ونجبر على الانصياع لما هو متاح أمامنا ومتوافر لدينا، وهنا تضيع منا فرصة صنع القرار وتحكيم الإرادة.
يجمع علماء النفس على أن الإنسان قادر على تشكيل حاضره ومستقبله من خلال خياراته، إلا أنهم يختلفون في أهمية المسببات والمثيرات التي تدفع بنا تجاه خيار محدد أو سلوك معين، ما بين الدافع والحافز الذي يدفع بنا نحو اقتراف السلوك، وبين الهدف والمقصد الذي يشدنا نحو ممارسة السلوك.
يعتقد "آلفرد آدلر" مؤسس علم النفس الفردي أن لكل إنسان منا هدف يسعى وراء تحقيقه، وغاية تتمحور حياتنا حول إنجازها، ويرى أن فهم هذا الهدف هو المهم لفهم سلوكات الأفراد، وتفوق أهميته أهمية فهمنا لدوافع ومسببات السلوك سواء الداخلية أو الخارجية كما يعتقد "سيجموند فرويد"، وهو أجدى نفعا من مبادئ التعزيز والثواب والعقاب التي يؤمن بها أتباع المدرسة السلوكية أمثال "سكنر" و"واطسون"، وبالرغم من أن كل إنسان منا هو شخص متفرد ومتميز عن غيره في اهتماماته الاجتماعية بناء على نمط حياته الخاص به، والذي تكوّن من خلال خبرات وتجارب طفولته ومراهقته مع الأسرة والمدرسة والأقران، إلا أننا نشترك جميعا بوصفنا كائنات اجتماعية، في غاية سامية وعالية واحدة نتوق إلى تحقيقها ألا وهي هدف الانتماء.
إلا أن البعدين السياسي والاجتماعي لقضية الانتماء في الوطن العربي مسألة شائكة ومعقدة، نظرا لخصوصية التجربة التاريخية والجغرافية التي مرت وتمر بها المجتمعات العربية عموما، مما يولد تساؤلات ملحة حول حقيقة انتماء الإنسان العربي المسلم، ودور هذا الانتماء في الأزمات السياسية العربية المتتالية والمتكررة.
أولا: الانتماء إلى الأرض والوطن أم إلى القبيلة والنسب؟
مشروعية هذا التساؤل مستمدة من حقيقة تكوين المجتمعات العربية المنحدرة من أصول بدوية رعوية، تعتمد في حياتها وأمنها وطعامها على حماية العشيرة والانضواء تحت لوائها، لمجابهة الأرض القاحلة المجدبة القاسية، ولا يظن البعض أننا في المجتمع المدني المديني اليوم قد تخلصنا من رواسب هذا الفكر الذي ترسخ في الوعي العربي الجمعي منذ زمن بعيد، وما زال يحرك ويوجه ويضبط خياراتنا وبوصلة انتماءاتنا وتوجهاتنا، ذلك أن القبيلة على مدار الأعوام ونتيجة للحياة الرعوية المتمثلة في الترحال والتنقل أصبحت هي الثابت، وهي مظلة الأمن والأمان، في الوقت الذي غدت فيه الأرض عاملا متغيرا وغير أساسيا في معادلة الحياة الرعوية، بل لقد كانت تتحول أحيانا ببخلها ومخاطرها إلى عدو للإنسان وحياته.
ثانيا: الانتماء إلى الأرض والوطن أم إلى القومية والعرق؟
طبيعة الجغرافيا الصحراوية الممتدة في الأراضي العربية، فرضت علينا حضارة تختلف بصورة جذرية في مكوّناتها وطبيعة نشأتها عن حضارة السهول، بما في الأولى من عوامل انفلات وتنقل وترحال تفرضه متطلبات البقاء، بشكل يناقض الثانية بما فيها من عوامل ثبات واستقرار وديمومة، وهذه الصحاري العربية المفتوحة فرضت بامتداداتها الشاسعة، شروطها وهيمنتها على تاريخ وحاضر الوطن العربي ومجتمعاته وسياسته، مما أدى إلى تضارب في فكر المواطن العربي، وتشويش في ميوله الوجدانية وانتماءاته العاطفية، بين العرق الذي انحدر منه أساسا أو الأرض الذي هاجر منها آباؤه وأجداده، مقابل الأرض الذي نشأ وترعرع فيها وأصبحت موطن ذكرياته ومستقبل أبنائه، مقابل النزعة القومية التي تربط أطراف الوطن العربي بنسيج قومي عروبي أحيانا وإسلامي أحيانا أخرى.
ثالثا: الانتماء إلى القومية العربية أم إلى الدولة الإسلامية؟
لقد جاءت الحضارة الإسلامية بمفهوم جامع يقوم على بناء دولة إسلامية تنصهر فيها الاختلافات العرقية والأيديولوجية لمصلحة الدين والدولة، إلا أن الدولة الإسلامية منذ تأسيسها مرورا بالخلافات الأموية والعباسية والفاطمية والعثمانية، وحتى يومنا هذا فشلت في تحقيق هذه الغاية، وما تاريخ الدول الإسلامية المتعاقبة بين ظهور وأفول مستمرين ونشوء وتحلل متواصلين، إلا دليلا واضحا على صعوبة انقياد المجتمعات العربية المتشرذمة بين عصبيات متصارعة وقبائل متناحرة، تحت لواء واحد يحكمها ويقودها ولو باسم الدين والإسلام، مما ساعد على تركيز الوعي العربي الجمعي على فكرة الولاء والانتماء المجرد للإسلام والأمة الإسلامية، بعيدا وبشكل منفصل عن الانتماء لدولة الإسلام التي لم تعرف استقرارا أو ثباتا أو حدودا أو حتى استمرارية مكانية وزمانية.
رابعا: الانتماء إلى الدولة أم إلى السلطة؟
يبدو هذا التساؤل للوهلة الأولى غير منطقيا مقارنة بالكراهية المستحكمة والعداء المستفحل والمعلن بين الأنظمة الحاكمة العربية الحالية وبين شعوبها المقموعة منذ زمن، إلا أن مفهوم الدولة لدى العرب المسلمين يختلف جذريا عنه لدى حضارات العالم ودوله، ذلك أن الدولة لدى الشعوب والحضارات الأخرى مرتبطة بمفهوم الدولة المؤسسي الثابت والدائم والمتواصل، والشامل للشعب والأرض والتاريخ الممتد المتراكم لحضارة الدولة وكيانها السياسي، وهذا لا ينطبق بتاتا على الدولة العربية الإسلامية التي ارتبطت منذ نشأتها بعناصر السلطة الحاكمة فيها، سواء في التاريخ الإسلامي القديم أو تاريخ الدول العربية الإسلامية المعاصرة.
هذه التساؤلات الصريحة والمباشرة حول انتماءاتنا كشعوب عربية تبرر حرمان المواطن العربي من ترف الخيار السياسي، في ظل معطيات صارمة وجامدة مثلت وما زالت تمثل جدارا صلدا أمامنا كمجتمعات، ولا تقتصر على كونها عقبات ومعيقات تحول دون قدرتنا على اتخاذ القرار كأفراد.
وقد كان المفكر والفيلسوف الاجتماعي إبن خلدون من أوائل من أشاروا إلى هذه الظواهر المختلفة والمجتمعة في مقدمته: "في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك، والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الأمم... فصعب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم التوحش"، وقوله: "خروج العرب عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة، فهم متنافسون في الرئاسة وقل أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره... فيتعدد الحكام والأمراء... فتبقى الرعايا في فوضى...".
هذه الزاوية المظلمة والمؤلمة التي اخترنا أن ننظر من خلالها إلى الواقع العربي السياسي، هي زاوية تتجاوز البكائيات والمراثي والإحباطات المتراكمة حول قبور ضحايا الأنظمة الحاكمة المستبدة والمؤامرات الماسونية الدولية، للوقوف على مكوّنات تاريخية وواقعية ومجتمعية وجغرافية شكلت في تشابكها وتقاطعها جوهر الوضع العربي السياسي المتأزم المزمن، وهذا هو الخيار الوحيد المتبقي أمامنا والقادر على أن يفتح لنا أبواب نلج من خلالها إلى خيارات أخرى ممكنة ومثمرة.
يقول د. محمد جابر الأنصاري في كتابه "التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام": "ما الأزمات السياسية العربية المعاصرة إلا امتداد واستمرار لأزمة سياسية تاريخية مزمنة، ظلت معتملة في بنية الحضارة العربية الإسلامية منذ الحروب الأهلية في العهد الراشدي، وبالتالي فمن أهم متطلبات تصحيح الوعي بالذات وبالواقع العربي المجتمعي والسياسي، أن ينضج علم اجتماع عربي بالمعنى المنهجي والمعرفي، بحيث يكون من أبرز أولوياته التوجه نحو بلورة علم اجتماع سياسي عربي، قادرا على تفسير معضلات السياسة العربية ومتجاوزا للنظريات والأيديولوجيات المستخلصة من واقع مجتمعات وحضارات أخرى، ذلك أن جميع المعسكرات العربية من أنظمة ومعارضة ويمين ويسار وسلطة وشعب، هي تضاريس ونتوءات سياسية تعكس في ظاهرها المختلف طبقات جيولوجية مشتركة في العمق ومتوحدة في الجذور ومتماثلة في المكوّنات".
تصحيح الوعي بالذات هو الخيار الذي سيخلّصنا من عنق الزجاجة، وسيتيح لنا إمكانية الانعتاق من أسر مطرقة الركون للاستبداد والظلم، وسندان الفتنة والحروب الأهلية والطائفية والمذهبية.
يتوجب علينا اليوم وفي غمرة الفرحة بزهور ونسيم وشمس الربيع العربي، أن نعيد النظر في أسس بناء الدولة العربية، بحيث نقوم بإعادة هيكلة لمقومات الدولة بشكل تستند الدولة فيه على أوتاد الشعب وركائز المؤسسات ودعائم منجزات ومكتسبات الدولة التراكمية، لنتخلص من الأطر السياسية التي قامت على مدار عقود وقرون بدمج قوام الدولة بالسلطة الحاكمة فيها، بصورة تماهت معها الدولة بالحكومة، وأصبح استمرار الدولة متوقفا على بقاء النظام الحاكم فيها، لدرجة جعلتنا نخشى على الدولة من الانهيار بسقوط نظامها، وهذا وضع تفردت فيه الدول العربية عن سائر دول وحضارات العالم، وقد ساعد على ترسخه الفراغ السياسي الذي سينتج عن سقوط النظام المنقض على كل أطراف المعادلة وأذرع القوى فيها، في غياب واضح لبديل سياسي حزبي وطني ثوري، متسلحا بالمصداقية، وببرنامج عملي وطني، ورؤيا واضحة، وأهداف وقيم ثابتة، ناهيك عن امتلاكه لهيكلة منظمة ومتماسكة وأدوات تغيير قيّمة وفاعلة، قادرة على كسب الرأي العام وتوجيه المسيرة الوطنية نحو الإصلاح.