عندما رفعت الحكومة البريطانية أسعار المحروقات عام 2000 تحت مسمى اسم «الضريبة الخضراء» بهدف محاربة التلوث الناتج عن الوقود الأحفوري، احتج سائقو الشاحنات وكونوا نقابة لحماية حقوقهم بشكل منظم متسببين بأزمة نقصٍ للمحروقات عمت أرجاء البلاد، وهو ما جعل رئيس الوزراء السابق توني بلير، يهدد بتدخل الجيش في إنهاء هذه المظاهرات. واليوم تعود أزمة المحروقات مرة أخرى، ولكن بسبب آخر، وهو نقص سائقي شاحنات نقل البنزين، واستعان رئيس الوزراء بوريس جونسون، بالجيش، لكن هذه المرة لقيادة الشاحنات. خلال هذين العقدين، لم يخف اعتماد البريطانيين على البنزين، بل ظهر أن البلاد قد تتعرض للشلل في حال استمرت أزمة نقص الوقود، والمتابع للأخبار يرى صور صفوف السيارات لساعات طوال للحصول على لترات قليلة من البنزين وسط توقعات بأن تطال هذه الأزمة قطاعات حساسة مثل القطاع الصحي والغذائي.
هذه الأزمة هي إحدى الأعراض الانسحابية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بريطانيا التي طالما اعتمدت في العقود الماضية على العمالة منخفضة التكلفة، التي تأتي من دول الاتحاد الأوروبي الأقل ثراء مثل رومانيا وبولندا. ومع عودة هذه العمالة إلى بلدانها، اتضح تأثير فقدان هذه العمالة، وعدم رغبة البريطانيين بالعمل في هذا النوع من الأعمال، لا سيما قيادة الشاحنات، وهو عمل ليس محبباً للكثيرين بما فيه من ساعات عمل طويلة وانقطاع اجتماعي. وعندما صوت البريطانيون للخروج من الاتحاد الأوروبي، كان أحد أكبر الدوافع هو التخلص من العمالة غير الماهرة مثل سائقي الشاحنات والجزارين والفلاحين وغيرهم.
ولكن أزمة البنزين أظهرت مدى اعتماد الاقتصاد البريطاني على هذه العمالة، وأن التخلص منها لن يكون في مصلحة الشعب، ولن يوفر الوظائف للبريطانيين، كما ادعى أنصار الشعوبية حينها، يوضح ذلك عدد العاطلين في بريطانيا اليوم، الذين تصل نسبتهم إلى 4.6 في المائة، رغم توفر أكثر من مليون وظيفة شاغرة، وهو دليل على أن الوظائف الشاغرة في بريطانيا اليوم لا تتناسب مع مهارات الباحثين عن عمل. ولا يبدو أن الحكومة البريطانية قدرت مدى حرج الفترة الانتقالية، التي يتم خلالها تدريب القوى العاملة الحالية على القيام بأعمال العمال الذين غادروا إما بسبب «بريكست» أو بسبب الجائحة.
ولن يقف أثر خروج هذه العمالة على المحروقات فحسب، فالعديد من المتاجر البريطانية تعاني الآن من عدم توفر البضائع بسبب الاختلال في سلاسل التوريد، فمخازن الشركات ملأى بالبضائع، ولا سبيل لنقلها إلى المتاجر لعدم توفر السائقين. يضاف إلى ذلك أن الجائحة و«بريكست» أثرتا على فترة الشحن من آسيا إلى بريطانيا، حيث تضاعفت مدة شحن البضائع من 35 إلى 70 يوماً، مما جعل الشركات تستورد بشكل أبكر من قبل، ومع امتلاء المخازن، واستمرار قدوم الشحنات، امتلأت معظم الموانئ الرئيسية في بريطانيا إلى حد قريب من طاقتها الاستيعابية الكاملة. هذه الحالة توضح مدى حساسية سلاسل التوريد، وكيف أثر اختلال عنصر من عناصرها في المنظومة اللوجيستية بأكملها.
وبريطانيا تحاول اليوم حل هذه المشكلة بعدة حلول؛ منها السماح بزيادة ساعات عمل سائقي الشاحنات، ومحاولة إعادة المتقاعدين منهم إلى العمل، وإعطاء تأشيرات عمل طارئة لسائقي الشاحنات الأوروبيين. ومع اعتماد الحكومة البريطانية على الحل الأخير بشكل واضح، إلا أن عدد التأشيرات الممنوحة لا يزيد على 5000 تأشيرة، وهو عدد ضئيل مقارنة بالنقص الذي يزيد عن عشرة أضعاف هذا الرقم، إضافة إلى أن التقديم على هذه التأشيرات لا يبدأ إلا في منتصف شهر أكتوبر (تشرين الأول)، وقد يستغرق منح التأشيرات شهراً كاملاً، أي أن الأزمة قد تستمر حتى منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل مع تراكم البضائع في الموانئ والمخازن، ونقصها في رفوف المتاجر!
إن ما يحدث في بريطانيا اليوم هو تراكمات من أخطاء تسببت في أزمة قد تفسد على البريطانيين معيشتهم خلال الشتاء، فسلاسل الإمداد العالمية ليست مرنة بشكل كاف لتتمكن من تحمل أثر الجائحة، والخروج من الاتحاد الأوروبي. والحكومة البريطانية لم تتصرف بشكل استباقي لهذه الأزمة التي لاحت بوادرها منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وقبل ذلك كله فإن الشعوبيين لم يضعوا في الحسبان أثر اختفاء اليد العاملة على سلاسل الإمداد بشكل خاص وعلى الاقتصاد بشكل عام. وفي حين لم يفق البريطانيون حتى الآن من أزمة البنزين، ونقص الغاز المستخدم في التدفئة، فهم الآن على وشك الدخول في أزمة غذائية خلال الأشهر المقبلة، ولا ينقص هذه الأزمة لتتفاقم إلا أن يعم الذعر المستهلكين تماماً، كما حدث في حالة نقص البنزين، وعندها قد يكون شتاء بريطانيا قارساً ومخيفاً، بنقص في البنزين والغذاء، وشح في الغاز.