يُوشك المشهد الأفغاني المتواصل فصولاً دامية منذ الغزو الأميركي لأفغانستان قبل 20 عاماً على الدخول في مرحلة «الحسم»... بمعنى أن انسحاب القوات الأميركية/الأطلسية, سيترك الأفغان حركة طالبان كما حكومة الدمى الأفغانية التي أقام الأميركيون أول نسخة منها برئاسة «الزعيم القَبلِيّ» حامد كرازاي (2001-2014), وانتهت بموظف البنك الدولي السابق.. أشرف غَني (2014 حتى الآن)، في وقت تُواصل فيه طالبان قضم المزيد من الأراضي والسيطرة على مزيد من الأقاليم (دون دخول المدن الكبرى) وتراجُع جيش الحكومة وصولاً الى فرار الآلاف منهم باتجاه الدول المجاورة وخصوصاً طاجكستان, الجمهورية السوفياتية السابقة الأقرب الى أفغانستان شمالاً والتي تتواجد فيها قوات حرس الحدود الروسية, لم يتردّد الرئيس بوتين في إبلاغ نظيره الطاجيكي استعداد موسكو لتقديم الدعم اللازم لبلاده بموجب «معاهدة الأمن الجماعي» بعد اشتداد وتيرة الاشتباكات على الحدود مع أفغانستان.
طالبان التي تستشعر مزيداً من فائض القوة لسان حالها يقول: «الأمر لي الآن»، وهي لا تُبدي اكتراثاً بالتهديدات الأميركية وتصريحات مُتحدث الخارجية الأميركية, التي تدعوها لـ«الدخول في مفاوضات جادة لتحديد خريطة طريق سياسية لمستقبل أفغانستان, تؤدي الى تسوية عادلة ودائمة» مُضيفاً بعض» مواعِظه «بأن العالَم» لن يقبل بفرض حكومة بالقوة في أفغانستان، ومساعدة أي حكومة أفغانية لا يمكن أن تكون ممكنة, إلاّ إذا كانت تلك الحكومة تحترم حقوق الإنسان بشكل أساسي.
ترد طالبان بشكل غير مباشر على الأميركيين كما على حكومة كابول, بأنها تستعد لطرح «وثيقة سلام مكتوبة» خلال شهر من الآن. وهو رد ملتبس ومسربل بالغموض, لكنه مدروس في ما يبدو, خصوصاً أن الإنسحاب الأميركي/ الأطلسي سيكون اكتمل خلال هذه المدّة, فضلاً عن ان الحركة ستكون زادت من سيطرتها على أزيد من المساحة التي تدّعي انها تسيطر عليها وهي 70% من مساحة البلاد. ما يُنذر بانهيار حكومة كابول قبل هذه الفترة, وإن كان الأميركيون يتوقعون تداعي نظام أشرف غني/عبد الله عبد الله خلال ستة أشهر من اكتمال الإنسحاب. وهي مدّة مُبالغ فيها على ضوء ما يحدث الآن من تسارع في الإنسحاب الأميركي, كما سيطرت طالبان المتواصلة على قواعد عسكرية وأقاليم أفغانية, ناهيك عن احتمال أن تفجّر طالبان مفاجأة مدوّية عبر اقتحام قاعدة «باغرام» الجوية الإستراتيجية التي انسحبت منها القوات الأميركية/والأطلسية. وكان لافتاً الإنسحاب تم بسريّة تامّة, ودون إخبار القيادة الأميركية أي مسؤول حكومي أو عسكري أفغاني بالأمر, تاركة إياها تحت جنح الظلام, ولم تعرف حكومة كابول بالأمر, سوى بعدما وجدت أبواب القاعدة مفتوحة وبلا حراسات، ما عكس مدى استهتار/احتقار الأميركيين بـ«حلفائِهم» الأفغان».
ثمة قلق كبير يتصاعد في عواصم الدول المجاورة لأفغانستان, ذات الموقع الاستراتيجي المتميز, خصوصاً باكستان والصين وإيران وطاجكستان وأوزبكستان وتركمنستان (بمعنى آخر «روسيا» حليفة الدول الثلاث وراعيتها), خاصّة أن طالبان لا ترتبط بعلاقات طيبة مع معظمها, ودأبت القول: إنها لن تتدخّل في شؤون اي دولة مجاورة ما لم تتدخّل تلك الدول في شؤونها, ناهيك عن"تهديدها» بأن لن تتردّد في قتال قوات أي دولة تُبقي على جنودها في أفغانستان أو ترسل جنوداً (أو منظمات) إليها.
باكستان المنخرطة في صراع مُزمن مع الهند, تراقب الأمور بحذر لترى ما تنوي نيودلهي عمله إذا ما سقطت حليفتها/حكومة كابول, والتي ارتبطت معها بعلاقات سياسية وتجارية ومشروعات تنموية عديدة, إذ يبدو مصيرها في مهب الريح إذا ما سيطرت طالبان على العاصمة، ناهيك عن تخوّف اسلام اباد من قيام طالبان (بشتونية العِرق كما باكستان, بتصفية حساباتها مع بعض المؤسسات والقوى الباكستانية التي ناصيتها العداء ودعمت قوى/حركات مُنافسة/مُعادية لها.
قصارى القول إن طالبان التي دخلت في حوار مع الأميركيين وصولاً الى «اتفاق سلام» أفضى لانسحاب أميركي كامل (حتى لو بقي ستمئة جندي لحراسة سفارتها), تبدو في وضع أفضل بكثير من حكومة «غني» التي لن تصمد طويلاً، ناهيك عن احتمالات تودد العواصم المجاورة لأفغانستان لها, أو عقد اتفاقات معها تُفضي الى دعم وحصر اهتمام طابان بالشؤون الداخلية الأفغانية بعيداً عن نهج الإرهاب ودعمه.