الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الممتد على مساحة ما يزيد عن القرن من الزمن استنزف طاقات وقدرات البشر على الجبهة الفلسطينية وعمقها العربي، التي تعمقت ندوبها وويلاتها بعد إقامة دولة التطهير العرقي الصهيونية بدعم مطلق من الغرب الرأسمالي على أنقاض نكبة الشعب الفلسطيني في أيار/ مايو 1948، وما أعقبها من حروب متعددة 1948، 1956 و1967 و1973، واجتياح لبنان وعاصمته بيروت 1982، الذي تحملت فيه الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وضمنا سوريا العبء الأكبر في المواجهة. وما زالت جبهة الحروب الفلسطينية الإسرائيلية مفتوحة، بعد أن نأى العرب بأنفسهم عن تحمل مسؤولياتهم القومية تجاة قضية العرب المركزية، وتجاه أمنهم القومي، وقلبوا المعادلة، مستغلين اعترافهم بمنظمة التحرير الفلسطينية، ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني عام 1974، و شعار استقلالية القرار الوطني الفلسطيني ليتذرعوا به، ويلقون بكامل العدوان الصهيوني الوحشي على ظهر الشعب الفلسطيني، وغيبوا عن سابق تصميم وإصرار الخلفية الإيجابية للقرار الفلسطيني، والذي لم يعنِ الانفصال والابتعاد عن العمق العربي بشقيه الرسمي والشعبي، رغم الفارق بينهما بالمعايير المعروفة لكل ذي صلة بالصراع العربي الصهيوني.
هذا الصراع المحتدم بأشكاله المتعددة بدءا من الكفاح المسلح إلى الكفاح السياسي والدبلوماسي والشعبي، الذي تجلى الأخير بأوضح صورة في الانتفاضة الكبرى 1987/1993 وانتفاضة الأقصى 2000/2005، التي امتزج فيها شكلي النضال السلمي مع المسلح، ثم حروب غزة الأربع 2008/2009 و2012 و2014 و2021 دون نسيان أو القفز عن المعارك المختلفة وأهمها معركة الكرامة آذار/ مارس 1968، والعرقوب وجنوب لبنان 1972 و1974 و1978، بالإضافة للمعارك الأخرى التي هدفت لتصفية القضية الفلسطينية في العديد من الجبهات العربية المعروفة للجميع بتواريخها. كل هذه الحروب والمعارك أكدت بما لا يدع مجالا للشك، أن القضية الفلسطينية عصية على التصفية، وأنه لا مجال للخروج من دوامة الحرب والعنف ما لم يتم بناء جسور السلام الممكن والمقبول، والذي تأجل 74 عاما منذ إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار التقسيم 181 في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 نتاج عدم امتثال الإرادة الدولية لمسؤولياتها باستقلال دولة فلسطين على أرض وطنها الأم، والتي مازالت تراوح في المكان ذاته بسبب انحياز الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا لدولة التطهير العرقي الصهيونية، رغم توقيع القيادة الفلسطينية اتفاق اوسلو عام 1993 مع دولة العدو الصهيوني، وقبولها بحدود دولتها على الأراضي الفلسطينية المحتلة في الخامس من حزيران/ يونيو 1967، وهو ما يعني تنازلها عن نصف مساحة الدولة، التي قررها قرار التقسيم آنف الذكر، وقبلت باستقلال دولتها على مساحة 22% من مساحة فلسطين التاريخية مع ضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين على أساس القرار الدولي 194 ومبادرة السلام العربية 2002.
الآن وبعد أن توقفت مبدئيا الحرب الصهيونية المجنونة على جبهة قطاع غزة قبل أيام قليلة في 21 ايار/ مايو الحالي، والتي ما زالت نيران هبتها البطلة مشتعلة في القدس العاصمة الأبدية وفي عموم الضفة الفلسطينية وفي داخل الداخل، جرى ويجري الحديث عن هدنة جديدة، لم تتضح معالمها حتى الآن، حيث تحاول جمهورية مصر العربية بدعم من العالم عموما والولايات المتحدة خصوصا بلورة محدداتها وضوابطها من خلال اتصالاتها مع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، فإن النتيجة الحتمية تؤكد للقاصي والداني في العالم، أن كل الهدنات، التي أبرمت لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به مالم يشرع العالم عموما وأقطابه الدولية خصوصا بالاندفاع لعقد مؤتمر دولي ملزم لبلوغ حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران عام 1967، وضمان عودة اللاجئين الفلسطينيين على أساس القرار الدولي 194، والمساواة الكاملة لأبناء الشعب الفلسطيني في الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة، وبالتالي منح الشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره بنفسه وعلى أرض وطنه الأم فلسطين.
إذن أية هدنة مالم تكن مربوطة بالحل السياسي الممكن والمقبول، ستكون هشة، وغير ذات جدوى، وعنوانا جديدا لاشتعال هبات وانتفاضات وثورات جديدة، لأن قادة دولة الاستعمار الصهيونية لن يتوقفوا عن خيارهم الاستعماري، وفي إشعال فتيل أشكال الكفاح الوطني بتلاوينه وأشكاله المختلفة، فإما أن يمنح الشعب الفلسطيني حقوقه السياسية واستقلال دولته الوطنية وعاصمتها القدس الشرقية، وأما بقاء دوامة الحرب والعنف والفوضى في المنطقة والعالم، لأن الشعب الفلسطيني وقيادته الشرعية لن يرفعوا راية الاستسلام شاء من شاء وأبى من أبى.