ما الذي يدفع المواطن الأوروبي أو الأمريكي أو الياباني أو غيرهم من مواطني هذا العالم إلى التضامن مع الفلسطينيين والتنديد بالعدوان على غزة؟. هل هو باعث «الهوية» ؟ وأي هوية هذه التي تجمع العربي بالأمريكي والأفريقي والتركي والأوروبي والياباني..الخ ؟ وتجمع المسلم بالمسيحي واليهودي والهندوسي والبوذي؟ هل هو باعث «صحوة الضمير»؟ وهل اخطأ هؤلاء بحقنا حتى يشعروا بالذنب ويكفروا عنه بالتضامن معنا والاحتجاج ضد أعدائنا ؟ هل هو باعث «السياسة» ومصالحها او غير ذلك مما قد لا يخطر على البال من أسباب ومبررات..؟.
ما كان لنا بالطبع ان نطرح مثل هذه الأسئلة لو كانت «امتنا» تتمتع بعافيتها، فقد استطاعت وقتذاك ان تستوعب الآخرين على اختلاف أجناسهم وهوياتهم وأديانهم لتجعل منهم فيما بعد طاقة «لحضارتها»، لكن حالة الضعف التي أصابتها فتحت أمامنا أبواب هذه الأسئلة وأغرتنا على تداولها.
لقد شعرت بالخجل -حقا - حين راودني سؤال «الهوية»: هوية هؤلاء الذي خرجوا متطوعين للتضامن مع غزة، وباعث هذا الشعور ما يتردد في فضاءاتنا العربية من «جدل» حول الموضوع، لدرجة تصورت فيها ان انشغالاتنا بهذه القضايا قد أعاقتنا عن النظر الى حقيقة أولوياتنا وقضايانا، وولّد لدينا شعورا «بالنقص» نحاول ان نملأه بأية وسيلة، صحيح ان الاعتزاز بالهوية والحفاظ عليها وحمايتها مسألة تقع في صميم اهتمامات الإنسان والمواطن، ولكن أي هوية هذه التي يمكن ان تجمعنا مع غيرنا ممن يعيشون معنا، او خارج حدودنا الجغرافية؟ أليس إطارها الأوسع هو «الإنسانية» هذه التي نتوحد أمامها «كبشر» ونلتقي عليها «كمشترك» وتحركنا «ضمائرنا» نحوها، لأنها «الهوية» الأولى التي لا نختلف عليها، مهما اختلفت أجناسنا وأعراقنا، وأدياننا وأماكننا أيضا.
لأسباب مختلفة، ما زلنا ننظر الى الآخر ونتعامل معه بمنطق التشكيك والحذر، ونعتقد ان هذا العالم لنا وحدنا، وأننا الأفضل دائما، ويُراودنا -أحيانا - إحساس بالمظلومية وانقطاع الخير من العالم، فيما لا نزال ننظر الى بعضنا بعيون الخوف والتربص والمبالغة في الخلافات والشماتة أحيانا وكأننا أمم داخل امة، وهويات تتصادم عبثا، وشعوب تتبادل ما شئت من وصفات الحث على الكراهية والخصومة.
دعونا نتعلم من هؤلاء الذين خرجوا من وراء البحار تعاطفا مع قضية فلسطين ومأساة غزة، وانتصارا لمنطق «الهوية» الإنسانية الجامعة، وتعبيرا عن «الضمير» الإنساني العابر للقارات والأجناس والأديان، دعونا نتعلم منهم قانون «الأخوة» الذي يجمع بين بني الإنسان، ونتذكر من قصتهم أن قرآننا بدأ بخطاب «يا أيها الناس» في اكثر من خمس وعشرين آية واستمر بخطاب «يا أيها المؤمنين» في كل آياته الأخرى، ولم يرد فيه «يا ايها المسلمون» ولو مرة واحدة.
دعونا نتعلم ان نقول لكل إنسان لم يشهر عدوانه علينا: أفريقيا أكان أم أوروبيا أم استراليا أم أمريكيا، بوذيا أكان أم مسيحيا أم يهوديا، أنت أخي في الإنسانية، ونظيري في الخلق.. ودعونا نتعاطف مع قضاياهم كما يفعلون معنا.. دعونا نجرّب ذلك.. ولن نخسر أبدا..