انتفضت القدس فردت صواريخ غزة، وما بين الحدثين وأثناءهما خرج فلسطينيو الداخل وفي مدن الضفة وبلداتها للاحتجاج ضد الكيان المحتل ، منذ سنوات طويلة لم نشهد -بالطبع- مثل هذا «الالتحام» الفلسطيني ، كما لم نشهد مثل هذا الفزع والارتباك الإسرائيلي ، ومعه الدولي والإقليمي والعربي ايضا ، لقد كان الاستحقاق وكذلك التوقيت مفاجئا للجميع ، فبعد ان اعتقدت إسرائيل وحلفاؤها ان الفلسطيني تعب واستسلم لقدره المحتوم ، جاءت « الانتفاضة» وما افرزنه وستفرزه لاحقا من تحولات فقلبت المعادلات القائمة ، وأسقطت أساطير الاستسلام والامتثال لتصفية القضية وفق صيغة «صفقة القرن « وملحقاتها.
صحيح ان عودة الروح للقضية التي تشكل «بوصلة « التحرر لكل إنسان عربي ومسلم، أحيت «الصراع « وفتحت ملفاته كما انها أنعشت الجماهير فخرجت للشارع لتعبر عن تضامنها مع الفلسطينيين ، وصحيح ان» التناغم « بين نيران المقاومة التي انطلقت من غزة وبين الاعتصامات والاشتباكات التي انطلقت من القدس وعمت معظم المدن الفلسطينية أثارتالجدل (مؤقتا) حول جدوى الخيارين السلمي والعسكري ، لكن الصحيح ايضا هو ان ثمة دروسا اخرى مهمة وصلتنا مما حدث ، بعضها سجلته القدس وبلدات الداخل والضفة واهل غزة ، وبعضها يمكن انتزاعه من الكيان المحتل وعدوانه الغاشم، وهي دروس لا تتعلق بصراعنا الطويل مع المحتل الأجنبي، سواء أكان عنوانه إسرائيل ام من يقف وراءها، وإنما تتعلق ايضا بصراع شعوبنا مع «الابتلاءات» التي تواجهها وهي تبحث عن استقلالها وحريتها وكرامتها داخل أوطانها.
أول درس وصلنا مما جرى في غزة تحديدا هو درس الاعتماد على الذات و الإبداع في تغيير الواقع لمواجهة استحقاقه و مفاجآته، و هنا استطاعت المقاومة ان تثبت وهي وحدها في الميدان، بانها استعدت بما يكفي للرد على العدوان، ليس في المجال العسكري الذي تفوقت فيه على نفسها، وانما في المجال الإعلامي و السياسي ايضا... ودرس الاعتماد على الذات ووضوح الهدف وعدم الانجرار الى (فخ) الصراعات الداخلية و الخارجية هو أفضل هدية قدمتها المقاومة لنا خلال ( حروب ) متتالية استهدفت اقتلاعها من الجذور.
الدرس الثاني هو ان غزة التي صمدت وراء مقاومتها تذكرنا بأن بناء المجتمع هو الضمانة الأساسية لنجاح المشروع ، أي مشروع، وسواء تحدثنا عن ( الجبهة الداخلية) أو (الحاضنة الاجتماعية) للتغيير والتحرر،فإن أولوية اقامة المجتمع المؤمن بالفكرة،(أليس الوصول للمجتمع أولى واجدى من الوصول للسلطة..؟) و المتماسك اجتماعيا و سياسيا، و البعيد عن صراعات المكاسب و المواقع، تتقدم على كل ما سواها من أولويات.
ثمة درس ثالث وهو سقوط نظرية ( القوة) و القمع في صناعة ( الأمن) في مقابل نجاح نظرية ( التحصين الثاني) وبناء الإنسان في صناعة ( الردع) و المقاومة و التغيير. ودرس سقوط نظرية القوة -بأنواعها - لا يتعلق فقط باسرائيل وانما ببلداننا العربية التي ما تزال تراهن على القمع لإنتاج الأمن وايضا بشعوبنا التي انجرت الى العنف من اجل التغيير فيما كان يمكن ان تتحصن بالسلمية لمواجهة الظلم والاستبداد ..
أما الدرس الرابع فهو انكشاف علل الذات العربية وصور تقصيرها في علاقاتها مع نفسها ومع العالم ومع المتغيرات التي طرأت على واقع البشر ،خذ مثلا : تعاملها مع الاعلام ومع الرهان على الزمن، وهذه كلها تحتاج الى مراجعات،ربما يفيدنا ما جرى في غزة للقيام بها.
يبقى الدرس الخامس وهو ان النجاح في ( التغيير) يستوجب الثبات على هدف واحد، وعدم التشعب في استعداء الآخرين، حتى لو ثبت كيدهم، وهذا ما فعلته المقاومة حين صوبت جهودها نحو العدو الاول واهملت المتحالفين معه....وهذا ما يمكن ان تفعله شعوبنا التي تحاول ان تستأنف مشوار ( التغيير) من أجل استعادة عافيتها.