اخبار البلد ـ في الأسبوع الذي تفوّقت فيه بريطانيا على معظم بلدان العالم في تطعيم العدد الأكبر ضد فيروس «كورونا»، وقعت حكومة المحافظين بزعامة بوريس جونسون في مأزق مواجهة مع المعارضة ومع الصحافة بأنواعها واتهامات بالمحسوبية وإهدار المال العام في تعاقدات مع مؤسسات يعمل بها وزراء سابقون.
أكثر الأسماء تناولاً في الصحف وعلى لسان نواب أحزاب المعارضة كان رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون، لأنه بعث برسائل للتليفون المحمول الخاص بوزير المالية وإلى مستشارين في الخزانة لمساعدة مؤسسة، يعمل استشارياً لها، على الحصول على قرض بسعر فائدة مخفض. ورغم أن رئيس الوزراء جونسون أمر بتشكيل لجنة تحقيق تحت البنود واللوائح الإدارية لمجلس الوزراء، فإن زعيم المعارضة السير كيير ستامر شدد الضغط على جونسون أثناء المساءلة الأسبوعية في مجلس العموم، مطالباً بنقل التحقيق إلى لجنة برلمانية، ومجلس الوزراء يصر على أن يكون التحقيق بلوائحه فليس بين الأسماء المتهمة نائب في البرلمان.
حجة المعارضة أن التهمة تتعلق بانتهاك لوائح برلمانية تنظم اللوبي lobby ومشتقاتها اللغوية اللوبيون lobbyists (النشطاء في اللوبي) والنشاط نفسه ونسميه مجازاً «التلبوية» lobbying أصلها برلمانية، لأن ما قام به كاميرون من محاولة التأثير على وزير المالية وإداريي الخزانة (رغم فشله في المحاولة وإفلاس الشركة) هو نشاط لوبي.
الأمر يتطلب الشرح لصعوبة ترجمة المعاني المختلفة واستعمالات كلمة اللوبي للعربية، خاصة أنها ارتبطت في الأذهان في العقود الأخيرة بجماعات الضغط (وعادة ما يتبادر لذهن قارئ الصحف العربية اللوبي اليهودي في الكونغرس)... ونقول لوبي مصانع السلاح مثلاً. بالنسبة للحياة البرلمانية البريطانية الأمر أكثر تعقيداً من أميركا، خاصة لأن البرلمان هو الحكومة في النظام البرلماني. كلمة لوبي تعني ردهة يشترط أن يكون لها أكثر من مدخل ومخرج ومتعددة الاستخدام (مثل لوبي الفندق). ومبنى مجلس العموم في قصر وستمنستر ممتلئ بالردهات؛ ومثلاً التصويت في البرلمان هو بمرور النواب إما في لوبي «نعم» وإما في لوبي «لا»، ويحسب عددهم عند الدخول والخروج. وهناك اللوبي المركزي وسط القصر، بين مجلسي العموم واللوردات، ومنه يدلف النواب عبر ردهتين أخريين، لا يسمح بالمرور فيهما لغير النواب والحراس وحاملي البطاقات الخاصة، أولاهما اللوبي الرئيسي، ثم لوبي النواب (الأعضاء) وله أربعة مداخل يفضي الشرقي منها إلى قاعة المجلس.
والمجموعة المصغرة من الصحافيين البرلمانيين لنا بطاقة خاصة نحملها عليها حرف اللام أي السماح بدخولنا إلى لوبي النواب، بل إن مجموعتنا الصحافية تعرف باللوبي، والصحافيون الأميركيون والأوروبيون يختلط عليهم الأمر لغياب اللوبي عندهم.
ولأن المسموح لهم بدخول هذه الردهات يختلطون بالنواب والوزراء ورئيس الحكومة، ظهر تعبير اللوبي و«التلبوية»، ومعناه العملي الاقتراب من أذن رجل السياسة والتحاور معه.
ومثلاً نخضع نحن صحافيي اللوبي للوائح البرلمانية نفسها التي يخضع لها نواب البرلمان (والوزراء كلهم نواب برلمان) فيما يعرف بكشف إشهار المصالح registry of interest أي نشاط يقوم به النائب أو الصحافي البرلماني يحصل منه على مكاسب مادية (تزيد قيمتها على 650 جنيهاً) أو رمزية تؤدي إلى مكاسب برلمانية نتيجة امتيازه بالوجود في دهاليز السياسة البرلمانية.
وبعد فضيحة المغالاة في المصاريف النقدية البرلمانية قبل عشر سنوات، استصدرت حكومة كاميرون نفسها قانوناً صوّت عليه البرلمان بالأغلبية يُخضع اللوبيين الخارجيين (أي غير العاملين في البرلمان) للتسجيل في كشف إشهار خاص يُعرف بتسجيل اللوبي. المقصود باللوبيين هنا مؤسسات علاقات عامة أو أفراد يعملون في الشركات والهيئات، يقيمون علاقات عمل وصداقة مع نواب البرلمان ورجال السياسة للتأثير عليهم.
ولا يسمح لهؤلاء بحمل بطاقات كالتي نحملها للتجول بحرية كاملة في البرلمان أو يكون لهم مكاتب مثلنا، وإنما يمكنهم الحضور إلى البرلمان كضيوف لنائب مثلاً. ولأن القانون الخاص بتنظيم اللوبيين يشمل الأشخاص وليس العملية نفسها lobbying، فإن كاميرون، من ناحية حرفية القانون لا روحه، لم ينتهك أي لوائح لأنه ليس مسجلاً كناشط في لوبي، وإنما هو مستشار لشركة.
لكن النشاط المتعلق باللوبي هو أيضا جزء مهم من بنيان المؤسسة الديمقراطية، فجماعات حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، ومؤسسة الصحة العامة، والمؤسسات الخيرية وآلاف من المنظمات الأخرى تمارس نشاط اللوبي. ولا يوجد قانون واحد صدر عن البرلمان، سواء بتقديم خاص من الأعضاء أو الحكومة أو المعارضة ولم يكن وراءه نشاط لوبي كمصدر للفكرة أو أدخل تعديلات عليها أو صححها. وبلا لوبي جماعات كالرفق بالحيوان، أو سلامة ركاب القطارات، أو المساواة العنصرية مثلاً لم تكن القوانين المنظمة لها ستصدر أصلاً. أي أن اللوبيات هي عيون وآذان نواب البرلمان والساسة على نبض الشارع وأحوال الناس، وهي مثل العرائض التي كانت تقدم لحراس السلطان عند مرور موكبه في الأزمان الغابرة والقصص الشعبية.
الأزمة التي فجرها «التيكست» الذي أرسله كاميرون إلى وزير المالية واعتبر نشاطاً «تلبوياً»، تكشف أمراً آخر عن علاقة النشاطات التجارية ورجال الصناعة والمال والاقتصاد بالحكومة. فالشركة التي يعمل كاميرون مستشاراً لها أحد أصحابها كان مستشاراً لكاميرون عندما ترأس الحكومة (2010 - 2016). ولأن عدداً من المستشارين في الوزارات (وهم موظفة تاج أي موظفو دولة وليسوا وزراء حكومة منتخبين) يعملون تطوعياً أو بعض الوقت part time وليس عملاً كاملاً طوال الوقت، فهم أيضاً يعملون في شركات ومؤسسات كل في مجاله.
العلاقة بين الأعمال التجارية والصناعة وكبار المستثمرين والجهاز الوظيفي قديمة وتعود إلى بداية الثورة الصناعية في نهاية القرن الثامن عشر، وهي أيضا جزء مهم من تطوير الاقتصاد وسير العمل لتهيئة وإصلاح اللوائح والقوانين التي تنظم الاقتصاد وأيضا خطط الحكومة وميزانيتها للاستثمار في المشاريع والبنية التحتية، أي حاجة الجهاز الوظيفي ومستشاري الوزراء لخبرة أهل الدراية بهذه المجالات.
لكن لا توجد لوائح محددة التسمية والتعريفات تنظيم العلاقة ولا تسمح للبعض باستغلال النفوذ أو الانتفاع من وجودهم في قلب الجهاز الحكومي لتحقيق مكاسب مادية أو امتيازات للشركات والمؤسسات التي ينتمون لها.
الأمر حتى اليوم متروك للجان البرلمانية، وهناك لجنة الإدارة العامة والمحاسبة التي تريد التحقيق مثلاً مع كل المشتركين في الاتهامات الموجهة إلى كاميرون، وقد أبدى استعداده للمثول أمامها، لكنها لا تستطيع إجبار أحد على المثول، واللجنة الأخرى مشتركة بين مجلسي العموم واللوردات تحقق بالفعل في الأمر لكن إمكانيتها محدودة؛ إذ أمامها قائمة طويلة من التحقيقات ستستغرق سنوات.