لم يستجب الحكم لجميع مطالب المعارضة لكنه ظل يحترم حقهم في التعبير .
هي إذاً شرعية القيادة الشعبية قبل أي شيء. بالنار والحديد, بالقمع والارهاب, كان بوسع قادة كثيرين في العالم العربي ودول العالم الثالث ان يحكموا شعوبهم عقودا طوال, لكن النهاية مأساوية حتما وقد تجر معها الويلات للشعوب والمثال الليبي حاضر امامنا. في غضون اشهر قليلة شهدنا نهايات مروعة لحكام عرب, احدهم طريدا في السعودية ومطلوبا للقضاء على ما ارتكب من جرائم, والثاني هو وابناؤه في السجن, والثالث مات ميتة شنيعة وسحلت جثته في الشوارع.
وحال بعض أقرانهم في السلطة لا يسر صديقاً, فمنهم من تعرض جسده للحرق وشوهت اطرافه حتى كدنا لا نعرفه, والآخر يتوعده شعبه بمصير أسود.
لم يعد بإمكان زعيم عربي ان يحكم شعبه بالادوات القديمة, ويعتمد القمع والترهيب للاستمرار في السلطة. فقد وضع الربيع العربي قواعد جديدة للحكم جوهرها الديمقراطية والمشاركة في صنع القرار وتقرير المصير.
العبارة التي وردت على لسان الملك عبدالله الثاني في مقابلة مع صحيفة كويتية بالأمس لافتة للغاية, فللمرة الاولى تشعر ان هنالك زعيما عربيا يدرك حقا استحقاقات الربيع العربي. الملك قال: "حتى لو انتصرت على شعبك عن طريق العنف فأنت مهزوم". لم يكن الملك مضطرا لقول ذلك, فالنظام السياسي الاردني لم يكن يوما دمويا او عنيفا, خاصة اذا ما قورن بانظمة عربية من حولنا جَزّت رقاب الآلاف من ابناء شعوبها وقضى مثلهم في السجون, وما زالت حتى اليوم تحرم الناس من ابسط حقوقهم. كان النظام السياسي الاردني قاسيا احيانا هذا صحيح, لكنه ظل متسامحا على الدوام مع معارضيه.
يدرك الملك اليوم أن هذه القيم على اهميتها لم تعد كافية لإدامة الشرعية, ينبغي تطوير آليات الحكم ودمقرطتها على غرار الملكيات العريقة في العالم. وفي مواجهة حركة الشارع الذي يحمل الطموح نفسه يدرك الملك ايضا ان معاندة الناس ومقاومة امانيهم في الديمقراطية هي وصفة لانتحار الدولة لا يمكنه القبول بها, ولذلك تَبنّى مقاربة ذكية عنوانها الاساسي الاستجابة التدريجية لمطالب الاصلاح, وتجنب استخدام العنف ضد المتظاهرين. في مرات قليلة لم يلتزم القائمون على الأمر بهذه السياسة فوقعت حوادث مؤسفة, لكن في كل الاحوال لم يسجل سقوط ضحايا باستثناء حالة واحدة في دوار الداخلية وفي ظروف مُلْتَبَسة.
صحيح ان الملك لم يستجب لكل المطالب, لكنه لم يقمع او يسجن اصحابها, وما زال بوسعهم حتى اليوم ممارسة حقهم في التظاهر وبشعارات تتجاوز القوانين احيانا من دون ان يتعرضوا للتنكيل.
غير ان ما عكر ويعكر صفو التجربة الفريدة في الاردن هو ظاهرة البلطجية التي أطلت برأسها في الاشهر الاخيرة هي حسب معظم المراقبين السبب وراء زيادة الاحتقان في الشارع الذي يؤدي بدوره الى رفع سقف الشعارات لتطال الملك مباشرة.
ان من يتبنى البلطجة كخيار لضرب حركة الشارع انما يضرب في الحقيقة حكمة الملك في الحكم التي لخصها في العبارة التاريخية الواردة في مقابلته الصحافية.
لا الملك يريد ولا الشعب قائدا مهزوما يحكم بلاده بالقوة, طرفا العقد يطمحان بمملكة ديمقراطية كانت منذ الاساس متسامحة وقريبة من شعبها وهى اليوم قادرة ان تقدم طريقا بديلا للربيع العربي غير طريق الدم والموت.