الملاحظة الثانية هي اننا للاسف قد اعتدنا على قراءة المآلات، ومحاسبة النهايات والافرازات والمخرجات، وغالبا ما نكتفي « بمتعة» الفرجة على المشهد من خارجه، او على ما يواكبه من أحداث تدغدغ رغبتنا في الكشف او انتظار المفاجآت (دعك من رغبة البعض في التشفي والانتقام او ادعاء الحكمة بآثر رجعي)، لكننا - وللاسف ايضا - لم نعثر على قراءة المشهد من داخله، او التغلغل الى ما يجري وراء الستارة، وبمعنى آخر، فاننا - وبحكم السطحية المفروضة على المتفرج - لا ندير كثيرا من الاهتمام للمناخات التي صدرت لنا هؤلاء الضحايا، ولا للاسباب التي دفعتهم الى ارتكاب ما فعلوه.. وحسبنا ان نتوقف امام هذه المناخات فقط، لندرك ان التهرب الضريبي لم تكن مالية فقط، وانما رافقتها تسهيلات سياسية واعلامية، وان اخطر ما فيها هذا التحالف غير المسبوق بين السياسي والاعلامي والاقتصادي، وان ما اصاب الاقتصاد من اضرار كان قد اصاب السياسة والاعلام مثله، وربما اكثر.
حسبنا - ايضا - ان نتوقف امام بعض الاسباب التي مهدت لمثل هذه الانحرافات، او ساهمت في بقائها بعيدا عن الانظار والمحاسبة، ابتداء من ضعف المشاركة الشعبية، وثقافة « وانا مالي « التي يعاني منها اكثر الناس تجاه انتقاد السياسات والقرارات الرسمية، وانتهاء باعتبارات « الثقة» التي لا تخضع لامتحان، والسلطة التي لا تخضع لمحاسبة، والخلل الذي يمتد ويمتد دون ان يجد احد يكشفه او يشير اليه بأصبعه، ولنتذكر هنا ان قضية التهرب الضريبي كقضايا الفساد الاخرى استمرت لسنوات طويلة، وخلالها كان اكثر من مجلس برلماني، واكثر من تقرير للرقابة والمحاسبة، ولكن ذلك كله لم ينجح في وضع اليد على الحقيقة، او حتى الشك فيها، وربما يسهل على البعض اعادة ذلك كله، للحظوة التي كان يمتلكها من يقف وراء العملية، بما انتهى اليه من سلط مالية وسياسية، لكن الصحيح ان مجتمعنا الذي انسحب من كل ما يهمه، لم يقم بواجبه المطلوب، ولو حصل، لما جرؤ احد - مسؤولا كان او غير مسؤول - على استغفاله على مدى هذه السنوات الطويلة.
بقيت ملاحظة اخيرة وهي تتعلق بما دأبنا عليه من فصل غير مفهوم، بين معنى الامن الوطني بمستوياته المختلفة، واذا كان الامن السياسي بمفهومه الداخلي المحدود قد حظي على اهتمامنا وحاز ما لا ينكر من نجاحات، فان امننا الاجتماعي (ان شئت امان المواطن وقدرته على التعبير والانتقاد) لم يحظ بما يحتاجه من اهتمام، وعليه، فان الحصانة الوحيدة يجب ان توجه للمواطن وان يكون هو، لا غيره، معيار الثقة بأي مسؤول، او القبول بأي قرار، ولو قدر لنا ان نتحدث بصراحة اكثر لقلنا بان اخضاع الناس لمعايير سياسية او غيرها، وتقسيمهم تبعا لها لاهل ثقة او غير ذلك، قد اخل بمجتمعنا، وافرز تشابكا غريبا في الادوار، وقيما غير سليمة طبعت علاقتنا الاجتماعية واصابتها في الصميم.
اما.. ما العمل.. فلا اشك بان عافية مجتمعنا، وما يمتلكه « الاصلاء» فيه من انتباه وصحوة، وارادة سياسية ووطنية، كفيل بان يفرز الزوان من البيدر، ويقلع الحسك من ارضنا الطيبة.