هل تراجعت الحريات وتغوّلت القيود إلى حد أن الدول الديمقراطية باتت تفرض حظر التجوال وتُسيّر دوريات الشرطة كي تلقي القبض على المتجولين؟ وهل بات كل ما هو طبيعي في الحياة في حالة خراب لم نعهدها من قبل؟ أين هو الواقع الذي عرفناه؟ وهل مازالت هنالك إمكانية لاسترداده؟ أم أن كل شيء بات في حكم المنتهي وأن ما هو آت يختلف جذريا عن ما عرفناه؟ وهل نواجه واقعا جديدا مازالت ملامحه غير واضحة؟
سلسلة من الأسئلة تدور في أذهان الجميع، لكن كلها بلا إجابات واضحة، إلى حد الإحباط. السبب في ذلك، أن الواقع قد تغيّر بالصدمة وليس بالتدريج، وغالبا ما تُدخل الصدمة الجميع في حالة من عدم اليقين، لذلك نرى إغلاق الحدود، وحظر التجوال، والدعوة إلى التباعد الاجتماعي، إلى الحد الذي بات الكل يخاف من الكل
تخرج للقيام بعمل مطلوب، ولا شيء يدور في الذهن سوى التفكير في الأماكن التي يمكن أن يختبئ فيها الوباء. تذهب لشراء شيء ما فتقف في طابور التسوق، تاركا بينك وبين الذي قبلك والذي بعدك ما لا يقل عن مترين، وعندما يسعل أحدهم تستدير الرؤوس بحثا عن المصدر، وكأنه صوّب إطلاقة نحو رؤوس الواقفين. يُسلّم عليك أحدهم فتتذكر النظام الحياتي الجديد الذي يطلبه منك الأطباء، الذين باتوا يحتلون نشرات الأخبار، مؤكدين على ضرورة التباعد الاجتماعي، فتحاول بشتى الطرق الالتزام بما يُقال، حتى بات الخوف من الآخر هو منهاج الحياة الجديدة. يذكرني هذا كيف كان الناس يهربون من الشوارع المزدحمة والأسواق في العراق، حين كانت التفجيرات واقعا يوميا، يحصد المئات من البشر. كان الجميع يتخيل أن كل سيارة واقفة، أو متحركة، ربما ستنفجر الآن. وأن كل من يرتدي جاكيت أو معطفا ربما تحته حزام ناسف سيفجّره في الحال
دخلت عبارة التباعد الاجتماعي سريعا إلى مناهجنا الحياتية، وزاحمت فعليا عبارة التواصل الاجتماعي التي نشأنا عليها
لقد دخلت عبارة التباعد الاجتماعي سريعا إلى مناهجنا الحياتية، وزاحمت فعليا عبارة التواصل الاجتماعي، التي نشأنا عليها. يدعي البعض أن الدعوة إلى التباعد الاجتماعي السارية في الظروف الراهنة، هي دعوة للتباعد الجسدي وحسب، في محاولة للحد من مساحة انتشار الفيروس. مؤكدين على أن التواصل الاجتماعي ممكن، وأن الانفصال أو الابتعاد عن بعضنا بعضا ليس هو المقصود، بل المقصود هو الحد من الاتصال باللمس والمصافحة والتقبيل، وهي العادات التي توافّق عليها البشر من قديم الأزمان. وأنها لا تعني قطع الروابط الأسرية والاجتماعية، لأنها حاجة إنسانية لا يمكن الوقوف ضدها، لكننا لو تأملنا مشهد الخوف من الآخر الذي شاع بين الناس هذه الأيام، لوجدنا أن الضرر قد أصاب الروابط الأسرية في البيت الواحد أيضا. والسبب يرجع إلى طبيعة الفيروس وطرق انتشاره. فعندما تدعو الدول إلى العزل الصحي للفئات العمرية الكبيرة، لأنها في حالة استعداد كبير لاكتساب الوباء، يضطر بقية أفراد العائلة لحجر الشخص المعني في غرفته داخل البيت، وتقليل الاتصال به قدر الإمكان، خوفا من نقل المرض إليه، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن هذه الدعوة أعطت فترة زمنية قوامها ثلاثة أشهر قابلة للتمديد، سيكون لدينا تصور واضح، مدى الضرر الفادح الذي ألمّ بالعلاقات الأسرية والاجتماعية. ربما في الغرب يكون الموقف بالنسبة إلى هؤلاء الناس أسوأ بكثير، حيث غالبيتهم يسكنون بمفردهم، وليس لديهم سوى ساعة واحدة في الأسبوع، يقضونها مع متطوع يأتي للكلام معهم لتعزيز غريزة التواصل الاجتماعي لديهم
إن المعادلة الجديدة التي فرضها الفيروس اليوم على الجميع، هي تغيير الأنماط الحياتية التي اعتدنا عليها، لقد بات التوجس والخوف من الآخر يتعزز أكثر، خاصة بعد الفقدان الجماعي لمئات البشر دفعة واحدة، في الصين وإيطاليا وإسبانيا وأمريكا وإيران ودول أخرى حول العالم. كما تم إبعاد المرضى عن ذويهم، وباتوا وحيدين يلاقون مصيرهم بدون أي إمكانية لرؤية أحبائهم، في الوقت الذي يُعطي تواجد العائلة إلى جانب المريض قوة معنوية عالية لمواجهة الأزمة التي يمر بها. كذلك المسنون في دور الرعاية الذين مُنعوا من استقبال أبنائهم وأحفادهم، بل الأقسى من كل ذلك هو نقل المتوفين بالمرض إلى أماكن دفن، بدون إلقاء النظرة الأخيرة عليهم، وأنتجت هذه المعادلة أيضا ارتباطا أعمق بالوسائل التكنولوجية بعد انتقال الأعمال والدراسة إلى المنازل، لتعزز أكثر من عزلتنا الجسدية، وتجبرنا على إعادة تحديد أسس اتصالنا بالآخرين، في حين أن التفاعل الإنساني حاجة ماسة وعامل تحفيز كبير لنا جميعا. وقد يقول البعض إنها فرصة ذهبية لتطوير الذات عبر تعلم مهارات جديدة، كما بات عدد الساعات التي تقضيها الأسر داخل البيت أكثر، وبالتالي سيعود العصر الذهبي حينما كانت هنالك مساحات واسعة للحديث والنقاش قبل ظهور الإنترنت، لكن من قال بأن التواصل الاجتماعي سيعود إلى سابق عهده قبل انتشار الوباء؟ فالطبيعة البشرية لديها القابلية على التعود، وأن الإنسان عبر العصور كان دائما يواجه التحديات بالتكيف، ثم يتطور هذا التكيف ويصبح نمطا حياتيا مستقبليا
إنها حقا لحظة فارقة في تاريخ البشرية يعيشها العالم اليوم في جميع أصقاعه، لقد ساوى الوباء الجميع، ولم يعد هنالك أي تمايز بين من يسكن لندن وباريس ونيويورك وبغداد وإسطنبول وبكين وجاكارتا. كما ساوى بين الحكام والمحكومين، فأصيب رؤساء وزارات ووزراء ومستشارون. كما أحبط الاعتقاد الذي كان سائدا من أن إبداع الإنسان في خلق عالم بلغ من الرُقي والحضارة شيئا خارقا، بات في حكم المستحيل أن يواجه مشكلة، من دون مقدرة هذا الإبداع على حلها. فهبطت الأسهم، على الرغم من هرولة الاقتصادات الكبرى لضخ ترليونات الدولارات، لإيقاف الهبوط، وتهاوت أسعار النفط، وألغيت آلاف الرحلات الجوية عبر العالم
ولم تستطع جميع الاحتياطات من إيقاف عبوره من مقاطعة صينية إلى كل دول العالم، عازلا الدول والأشخاص كلا في حيز مكاني محدد. كما ترك الملايين على كوكب الأرض يعيشون في خوف من مصير مجهول. لقد قلب الحياة والعادات اليومية التي ألفناها رأسا على عقب، وترك الجميع يحاولون بشتى السبل التكيف مع الواقع الجديد، الذي لا بد أن تترك التدابير التي نتخذها اليوم للتكيف فيه آثارا مستقبلية على سلوكنا وعاداتنا اليومية، وطريقة تواصلنا مع الآخرين، وإذا كان البعض يرى أن هنالك عناصر إيجابية في الأنماط الحياتية الجديدة، مثل العمل من المنزل على سبيل المثال، وبقاء الأسرة ساعات أطول في البيت، ما يوفر مساحة للنقاش وتبادل الآراء، فإن العناصر السلبية ستكون حاضرة أيضا، في الانماط الحياتية الجديدة، منها العزلة والابتعاد عن اللقاءات الاجتماعية، وربما الخمول والكسل، وعدم الاهتمام باللياقة البدنية، خاصة أن الجلوس في البيت لاوقات طويلة يكون مرتبطا بزيادة استهلاك الأطعمة
يتساءل الروائي عبدالرحمن منيف «هل يستطيع الإنسان أن يتكيف مع الأشياء الجديدة، من دون أن يفقد جزءا من ذاته؟»
سلسلة من الأسئلة تدور في أذهان الجميع، لكن كلها بلا إجابات واضحة، إلى حد الإحباط. السبب في ذلك، أن الواقع قد تغيّر بالصدمة وليس بالتدريج، وغالبا ما تُدخل الصدمة الجميع في حالة من عدم اليقين، لذلك نرى إغلاق الحدود، وحظر التجوال، والدعوة إلى التباعد الاجتماعي، إلى الحد الذي بات الكل يخاف من الكل
تخرج للقيام بعمل مطلوب، ولا شيء يدور في الذهن سوى التفكير في الأماكن التي يمكن أن يختبئ فيها الوباء. تذهب لشراء شيء ما فتقف في طابور التسوق، تاركا بينك وبين الذي قبلك والذي بعدك ما لا يقل عن مترين، وعندما يسعل أحدهم تستدير الرؤوس بحثا عن المصدر، وكأنه صوّب إطلاقة نحو رؤوس الواقفين. يُسلّم عليك أحدهم فتتذكر النظام الحياتي الجديد الذي يطلبه منك الأطباء، الذين باتوا يحتلون نشرات الأخبار، مؤكدين على ضرورة التباعد الاجتماعي، فتحاول بشتى الطرق الالتزام بما يُقال، حتى بات الخوف من الآخر هو منهاج الحياة الجديدة. يذكرني هذا كيف كان الناس يهربون من الشوارع المزدحمة والأسواق في العراق، حين كانت التفجيرات واقعا يوميا، يحصد المئات من البشر. كان الجميع يتخيل أن كل سيارة واقفة، أو متحركة، ربما ستنفجر الآن. وأن كل من يرتدي جاكيت أو معطفا ربما تحته حزام ناسف سيفجّره في الحال
دخلت عبارة التباعد الاجتماعي سريعا إلى مناهجنا الحياتية، وزاحمت فعليا عبارة التواصل الاجتماعي التي نشأنا عليها
لقد دخلت عبارة التباعد الاجتماعي سريعا إلى مناهجنا الحياتية، وزاحمت فعليا عبارة التواصل الاجتماعي، التي نشأنا عليها. يدعي البعض أن الدعوة إلى التباعد الاجتماعي السارية في الظروف الراهنة، هي دعوة للتباعد الجسدي وحسب، في محاولة للحد من مساحة انتشار الفيروس. مؤكدين على أن التواصل الاجتماعي ممكن، وأن الانفصال أو الابتعاد عن بعضنا بعضا ليس هو المقصود، بل المقصود هو الحد من الاتصال باللمس والمصافحة والتقبيل، وهي العادات التي توافّق عليها البشر من قديم الأزمان. وأنها لا تعني قطع الروابط الأسرية والاجتماعية، لأنها حاجة إنسانية لا يمكن الوقوف ضدها، لكننا لو تأملنا مشهد الخوف من الآخر الذي شاع بين الناس هذه الأيام، لوجدنا أن الضرر قد أصاب الروابط الأسرية في البيت الواحد أيضا. والسبب يرجع إلى طبيعة الفيروس وطرق انتشاره. فعندما تدعو الدول إلى العزل الصحي للفئات العمرية الكبيرة، لأنها في حالة استعداد كبير لاكتساب الوباء، يضطر بقية أفراد العائلة لحجر الشخص المعني في غرفته داخل البيت، وتقليل الاتصال به قدر الإمكان، خوفا من نقل المرض إليه، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن هذه الدعوة أعطت فترة زمنية قوامها ثلاثة أشهر قابلة للتمديد، سيكون لدينا تصور واضح، مدى الضرر الفادح الذي ألمّ بالعلاقات الأسرية والاجتماعية. ربما في الغرب يكون الموقف بالنسبة إلى هؤلاء الناس أسوأ بكثير، حيث غالبيتهم يسكنون بمفردهم، وليس لديهم سوى ساعة واحدة في الأسبوع، يقضونها مع متطوع يأتي للكلام معهم لتعزيز غريزة التواصل الاجتماعي لديهم
إن المعادلة الجديدة التي فرضها الفيروس اليوم على الجميع، هي تغيير الأنماط الحياتية التي اعتدنا عليها، لقد بات التوجس والخوف من الآخر يتعزز أكثر، خاصة بعد الفقدان الجماعي لمئات البشر دفعة واحدة، في الصين وإيطاليا وإسبانيا وأمريكا وإيران ودول أخرى حول العالم. كما تم إبعاد المرضى عن ذويهم، وباتوا وحيدين يلاقون مصيرهم بدون أي إمكانية لرؤية أحبائهم، في الوقت الذي يُعطي تواجد العائلة إلى جانب المريض قوة معنوية عالية لمواجهة الأزمة التي يمر بها. كذلك المسنون في دور الرعاية الذين مُنعوا من استقبال أبنائهم وأحفادهم، بل الأقسى من كل ذلك هو نقل المتوفين بالمرض إلى أماكن دفن، بدون إلقاء النظرة الأخيرة عليهم، وأنتجت هذه المعادلة أيضا ارتباطا أعمق بالوسائل التكنولوجية بعد انتقال الأعمال والدراسة إلى المنازل، لتعزز أكثر من عزلتنا الجسدية، وتجبرنا على إعادة تحديد أسس اتصالنا بالآخرين، في حين أن التفاعل الإنساني حاجة ماسة وعامل تحفيز كبير لنا جميعا. وقد يقول البعض إنها فرصة ذهبية لتطوير الذات عبر تعلم مهارات جديدة، كما بات عدد الساعات التي تقضيها الأسر داخل البيت أكثر، وبالتالي سيعود العصر الذهبي حينما كانت هنالك مساحات واسعة للحديث والنقاش قبل ظهور الإنترنت، لكن من قال بأن التواصل الاجتماعي سيعود إلى سابق عهده قبل انتشار الوباء؟ فالطبيعة البشرية لديها القابلية على التعود، وأن الإنسان عبر العصور كان دائما يواجه التحديات بالتكيف، ثم يتطور هذا التكيف ويصبح نمطا حياتيا مستقبليا
إنها حقا لحظة فارقة في تاريخ البشرية يعيشها العالم اليوم في جميع أصقاعه، لقد ساوى الوباء الجميع، ولم يعد هنالك أي تمايز بين من يسكن لندن وباريس ونيويورك وبغداد وإسطنبول وبكين وجاكارتا. كما ساوى بين الحكام والمحكومين، فأصيب رؤساء وزارات ووزراء ومستشارون. كما أحبط الاعتقاد الذي كان سائدا من أن إبداع الإنسان في خلق عالم بلغ من الرُقي والحضارة شيئا خارقا، بات في حكم المستحيل أن يواجه مشكلة، من دون مقدرة هذا الإبداع على حلها. فهبطت الأسهم، على الرغم من هرولة الاقتصادات الكبرى لضخ ترليونات الدولارات، لإيقاف الهبوط، وتهاوت أسعار النفط، وألغيت آلاف الرحلات الجوية عبر العالم
ولم تستطع جميع الاحتياطات من إيقاف عبوره من مقاطعة صينية إلى كل دول العالم، عازلا الدول والأشخاص كلا في حيز مكاني محدد. كما ترك الملايين على كوكب الأرض يعيشون في خوف من مصير مجهول. لقد قلب الحياة والعادات اليومية التي ألفناها رأسا على عقب، وترك الجميع يحاولون بشتى السبل التكيف مع الواقع الجديد، الذي لا بد أن تترك التدابير التي نتخذها اليوم للتكيف فيه آثارا مستقبلية على سلوكنا وعاداتنا اليومية، وطريقة تواصلنا مع الآخرين، وإذا كان البعض يرى أن هنالك عناصر إيجابية في الأنماط الحياتية الجديدة، مثل العمل من المنزل على سبيل المثال، وبقاء الأسرة ساعات أطول في البيت، ما يوفر مساحة للنقاش وتبادل الآراء، فإن العناصر السلبية ستكون حاضرة أيضا، في الانماط الحياتية الجديدة، منها العزلة والابتعاد عن اللقاءات الاجتماعية، وربما الخمول والكسل، وعدم الاهتمام باللياقة البدنية، خاصة أن الجلوس في البيت لاوقات طويلة يكون مرتبطا بزيادة استهلاك الأطعمة
يتساءل الروائي عبدالرحمن منيف «هل يستطيع الإنسان أن يتكيف مع الأشياء الجديدة، من دون أن يفقد جزءا من ذاته؟»