إذا أراد أحد بسط قضيّته أمام محكمة، وغيّر روايته عدة مرات، فإنّ أقل ما يُمكن أن يَستحقه هو التوبيخ والطرد من القاعة باعتباره كاذباً، ثمّ اتهامه بتغيير الشهادة. وبذلك، يكون قد نسف قضيّته بنفسه. وفي أي تحقيق، يسألونك نفس السؤال في سياقات مختلفة لاختبار صحة روايتك. وآه لو غيرت تفصيلاً صغيراً، إذن لأصبحت كل قصتك مشبوهة، ولعادوا فاستنطقوك من البداية.
في قراءة المرحوم خليل السكاكيني للأول الابتدائي، "راس، روس"، علَمونا الحروف بالتكرار. كانوا يضعون حرف الألف في كثير من الكلمات: "راس، دار، كانون نار، ساري.." باللون الأحمر ومدعوماً بالصور. وقد وظف المنهاج التعليمي الجدير فكرة الإلحاح البدهية بالذات: كرِّر الشيءَ، وكرِّرهُ نفسَه مرةً فأخرى، حتى ينحفر في الوعي مثل النقش على الفولاذ. هذا هو مجمل الحكاية. وهنا وقع خطأ قاتل في إدارة القضية الفلسطينية.
كتَبتُ عن "الرواية الفلسطينية" في هذه الزاوية نفسها مرّات، وأكرر الآن أيضاً، مدفوعاً هذه المرّة بهاجس كابوسي عاد بقوة، وكأنه جديد. وقد أثارته النسختان الأخيرتان من روايتين في الأمم المتحدة: رواية الرئيس الفلسطيني، ورواية رئيس حكومة العدو الصهيوني. ولدى وضع الخطابين في سياقاتهما الأعمّ، سنلاحظ مباشرة أن هناك رواية متغيرة جِدّاً، مترددة وكأنها تشكُّ في نفسها جِدّاً، في مقابل رواية ثابتةٍ وعنيدة جِدّاً، متشبثة بكل تفصيل.
إذا عرضتُ عليكَ صورة، وغيرتُها، ثمّ غيرتُها، فإنني سأشوِّشُك. وسيكون ما يستقرُّ في ذهنك، مؤقتاً، هو الصورة الأخيرة، ولن تقف عندها كثيراً لأنك ستتوقع تغيّرها أيضاً. وفوق ذلك، سأبدو لَكَ مُختلاً وقليلَ اليقين، فلماذا تثق بي؟ وإذا قلتُ لك وللناس مرة أن هذا البيت كلُّه لي وورثته عن أبي وجدي، ولم أقبل بنصفه وأردته كاملاً، ثم عدتُ لأقبّلَ يديكَ لتعطيني فقط غرفة الخدم في آخِر الحديقة، فلماذا تعطيني شيئاً؟ ولماذا لا ينفضُّ عنّي المتعاطفون ولم أتشبث أنا نفسي بروايتي عن حقّي؟
قالت الرواية الصهيونية في البداية أن "أرض إسرائيل" هي حقّ اليهود الإلهي المقدّس؛ وقالوا أنهم يحررون وطنهم ويستخدمون حق العودة إليه؛ إنه لم يكن هناك شعب فلسطيني، وإنهم ربما يقدمون "تنازلات مؤلمة" عن جزء من حقهم للمترحّلين الذين لا وطن لهم، من باب المنّة والإنسانية؛ وقالوا إنّ اليهود هم الضحية الأبدية للظلم والإبادة الجماعية، وإنهم يعيشون في محيط معتَدٍ عدواني؛ وقالوا إنّ كل ما يسفكونه من دماء المدنيين الفلسطينيين هو "دفاع مشروع عن النفس والوجود"؛ وقالوا إن اليهودية ليست ديناً، وإنما قوميّة عرقية. ومن البدء حتّى اليوم، وغداً، لم ولن يتغيّر سطر واحدٌ من الرواية. ولم يكتفوا بالرواية، وإنما أيّدوها بالبندقية وبشراء مراكز القرار العالمي. وروايتنا: في البدء كانت أنّ فلسطين التاريخية، من البحر إلى النهر، حقّ لأصحابها الفلسطينيين؛ وأن المقاومة المسلحة حقّنا المشروع لاستعادة الحق؛ وأنّ عودة الفلسطينيين إلى أرضهم خيارنا الأوحد الذي لا بديل عنه، ورفض العرب والفلسطينيون قرار تقسيم 1947 باعتباره لا يفي بالحق. ثُمَّ، قبل العرب والفلسطينيون –ضمناً وعلناً- بشرعية وجود دولة الاحتلال على أرض فلسطين؛ ودانوا مقاومتهم المشروعة وتنصلوا منها وقبلوا بتسميتها "عنفاً"؛ (لاحظوا تعهد عباس بنبذ العنف في الأمم المتحدة، وعدم ذكر نتنياهو لشيء من ذلك)؛ ثم وافقوا على أنّ فلسطين هي الضفة الغربية وغزة فقط؛ واستعدّوا للقبول بحقِّ عودةٍ كلامي للاجئين. وقالوا إن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين، ثم قالوا إن "سلطة أوسلو" هي الممثل الوحيد.
تعرفون قصة المرأتين اللتين تنازعتا على الصبي؟ كانت الأم الكاذبة هي التي قبلت بقسمته قسمين. والأم الحقيقية هي التي لم تقبل القسمة. هكذا جعلتنا روايتنا المؤقتة، المختزلة الطارئة شهود زور أمام العالم، بل لقد أصابنا تغيير الحكاية المجنون بالعصاب، فصرنا نصدقها ونعيد روايتها مشوهة. ذلك في مقابل رواية: "إسرائيل، الضحية، المهددة، المستعدة لتنازلات المؤلمة، اليهودية، القومية". نفس الحكاية في الأول والآخِر.
لم يكُن تغيير الرواية الفلسطينية براغماتية، وإنما جريمة قوميّة. إذا لم تصدِّق أنت حكايتك، فكيف يصدّقها الآخرون؟ لقد أجرَم رُواتنا غير الفصيحين وغرّرَ بهم "ناصحون" ماكرون، فبدوا كالحمقى، وجعلونا ندفع الثمن!
منتَهى الغباء السياسي..!
أخبار البلد -