قبل أزيد من ست سنوات، وبالتحديد في السادس والعشرين من أيار/ مايو 2005، كتبت في هذه الزاوية مقالة بعنوان "الطحاوي وأنا"، يومها كان (عبد شحادة الطحاوي)، الذي أصبح اليوم "الشيخ أبو محمد الطحاوي"، يواجه محكمة أمن الدولة بتهم تتصل بالإرهاب، ومن بينها واحدة تخصني والأخ جريس سماوي، الذي سيصبح فيما بعد وزيراً للثقافة، وكان يومها مشرفاً على مهرجان جرش، أحدنا (كاتب هذه السطور)، تلقى تهديدات بالاعتداء أو ربما القتل، لمواقفه الانتقادية للقاعدة وخطها "الزرقاوي"، والثاني، جريس سماوي، بالنظر لمسؤوليته عن نشر "الرذيلة" التي تسير في ركاب المهرجان، وتنتشر من على مدرجاته الرومانية التاريخية.
يومها كانت لغة الحوار مع هذا التيار، تمر حكماً عبر فوهة المسدس أو كاتم الصوت، وفي ألطف الحالات وأفضل السيناريوهات، كانت لغة القطع والقطيعة، التخوين والتكفير، هي اللغة الدارجة على كل لسان، وعندما عدت قبل قليل لقراءة المقال المذكور، استشعرت عمق الفجوة المتسعة كشفرتي مقص متباعدتين، خلاصة ما ورد فيه، لكم دينكم ولي دين، مع فيض من التفاصيل التي لا حاجة لاسترجاعها الآن، وهي متوفرة لدى "غوغل" على أية حال، لمن أراد الاستزادة، والتعرف عن كثب، على أجواء تلك اللحظة.
قبل أيام، زارني في مكتبي محمد أحمد الشلبي، الشهير بـ"أبو سيّاف"، ومعه رفيق له في الفكر و"الجهاد"، وأعترف لكم أنني كنت متشوقاً لهذا اللقاء، فالفضول لمعرفة "الآخر" عن قرب، والاستماع لهذا التيار على ألسنة قادته، وليس عنه أو عنهم، كان دائماً في صدارة اهتماماتي، فكيف إن كان محدثك رجلا بشهرة "أبو سيّاف" وسجلّه وموقعه، إن أنت اتفقت أو اختلفت معه أومعهم، فليس بوسعك ككاتب أو باحث موضوعي إلا أن تقر بأن هذا التيار موجود بين ظهرانينا، ومنزرع في تربتنا، وأن له مريدين وأنصار، ربما أكثر مما لدى مختلف التيارات الأخرى مجتمعة، باستثناء التيار الإخواني.
ولكم كانت دهشتي عظيمة، عندما استمعت من الرجل مباشرة، ومن زميله طبعاً، إلى حديث يتسم بالاستعداد للانفتاح على الآخر والاعتراف بوجوده، و"عدم جواز تكفيره"، بل وتجريم تكفيره من دون "ضوابط شرعية" على حد تعبيره، فوجئت بمستوى "المراجعات" التي أجراها (ويجريها) هذا التيار، خصوصاً لجهة مغادرته مربعات العنف والتكفير، ورغبته في الانخراط بميادين شتى من العمل العام، فوجئت بأن القوم قرروا افتتاح قناة للحوار بـ"الكلمة الطيبة" و"الموعظة الحسنة" على حد قولهم، بعيداً عن "العبوات" و"المفخخات" وفوهات المسدسات والبنادق.
هو تطور بلا شك، في مواقف هذا التيار واتجاهات تفكيره، كنا نعرف بحدوثه من باحثين مختصين، على صلة أوثق بعوالمه، وأذكر أنني قرأت للصديق محمد أبو رمان كتابات عدة في هذا المجال، وهو تبنى قضية الإفراج عن معتقليهم، ودعم توجهاتهم السلمية، وشجّع انخراطهم في المجتمع وعيشهم وتعايشهم مع بقية مكوناته، أعترف أيضاً، بأن الحديث مع قادة هذه التيار، لا عنهم، يمكن أن يعطي صورة أعمق وأدق، عن تحوّلاتهم، التي يفضلون أن يسمونها بـ"المراجعات"، مع تشديد دائم بالطبع، على ثوابت الشرع والشريعة، وهذا من حقهم على أية حال، وأعترف أيضاً أن أبو رمان كان سبّاقاً في إلقاء الضوء على تحوّلات هذا التيار والأجيال المتعاقبة من قادته وكوادره.
مع الحياة والناس / بقية
لقد كان حديثاً "ذا شجون"، لكن "المجالس أمانات"، وسنرجئ تناول بقية موضوعاته إلى أن يأذن لنا من وعدناهم بعدم التطرق إليها، وبانتظار المزيد من الحوارات الأكثر عمقاً وتوسعاً، لكنني استرجع الآن جملة من النقاط، من بينها:
(1) أن الحركات السلفية تميل لإجراء "المراجعات" بين حين وآخر، وهذا حدث تقريباً في معظم الساحات العربية، والأردن لن يكون استثناءً لهذه القاعدة أو خروجاً عنها.
(2) أن هذه الحركات، ليست من طينة واحدة، وإن كان بينها من المشتركات، ما يجعل وقوع الالتباسات والإشكالات، أمراً ممكناً، وهنا أستحضر العتب الدائم للصديق أسامة شحادة، الذي طالما أخذ عليّ وضع السلفيين جميعاً من شتى المنابت والأصول الفكرية والحركية، في سلة واحدة، وكذا فعل "أبو سيّاف".
(3) أن الفجوة مع التيار السلفي على اتساع وتعدد مدارسه ومشاربه، لا تزال، والأرجح أنها ستبقى متسعة للغاية، صحيح أن مغادرة مربع العنف والتكفير، أمرٌ بالغ الأهمية، وصحيح أيضاً أن أي انفتاحٍ على الآخر وتلاقحٍ مع إفكاره، سيعدُّ خطوة تستحق الدعم والتشجيع، لكن الصحيح كذلك، أن للقوم نظرة أخرى مغايرة، لمعظم أن لم نقل جميع، عناوين برنامج الإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي الذي نؤمن به ونرفع رايته، ما يجعلنا ويبقينا في موقع آخر وخندق آخر.
جديد السلفيين من هذا التيار، أن الحوار معهم صار ينهض على قاعدة "كلمة مقابل كلمة" و"فكرة مقابل فكرة"، ساحاته وميادينه الغرف المفتوحة للهواء والقاعات الفسيحة المُشمسة، ولم يعد بالضرورة حوار المسدسات والمفخخات الذي تكاد ساحاته تنحصر في "الزوايا المعتمة" أو قاعات "أمن الدولة"، لقد اختلفنا مع هذا التيار زمن التكفير و"الإرهاب"، وسنختلف معه، زمن "المراجعات" و"التحولات"، لكن شتان ما بين الظرفين والاختلافين، لقد وصف "أبو سيّاف" مقالات كاتب هذه السطور، بالشديدة والقاسية على أنصاره، لكن مهما كانت قسوة الكلمة وشدتها، تظل مع ذلك كلمة، وهي بخلاف المثل الدراج، ليست كالرصاصة أبداً، نريد أن نختلف بالكلمات، وبالكلمات فقط، فنحن أعضاء في "نادي التعددية" ولسنا أعضاء في "نادي الرماية أو ميادينها".
يومها كانت لغة الحوار مع هذا التيار، تمر حكماً عبر فوهة المسدس أو كاتم الصوت، وفي ألطف الحالات وأفضل السيناريوهات، كانت لغة القطع والقطيعة، التخوين والتكفير، هي اللغة الدارجة على كل لسان، وعندما عدت قبل قليل لقراءة المقال المذكور، استشعرت عمق الفجوة المتسعة كشفرتي مقص متباعدتين، خلاصة ما ورد فيه، لكم دينكم ولي دين، مع فيض من التفاصيل التي لا حاجة لاسترجاعها الآن، وهي متوفرة لدى "غوغل" على أية حال، لمن أراد الاستزادة، والتعرف عن كثب، على أجواء تلك اللحظة.
قبل أيام، زارني في مكتبي محمد أحمد الشلبي، الشهير بـ"أبو سيّاف"، ومعه رفيق له في الفكر و"الجهاد"، وأعترف لكم أنني كنت متشوقاً لهذا اللقاء، فالفضول لمعرفة "الآخر" عن قرب، والاستماع لهذا التيار على ألسنة قادته، وليس عنه أو عنهم، كان دائماً في صدارة اهتماماتي، فكيف إن كان محدثك رجلا بشهرة "أبو سيّاف" وسجلّه وموقعه، إن أنت اتفقت أو اختلفت معه أومعهم، فليس بوسعك ككاتب أو باحث موضوعي إلا أن تقر بأن هذا التيار موجود بين ظهرانينا، ومنزرع في تربتنا، وأن له مريدين وأنصار، ربما أكثر مما لدى مختلف التيارات الأخرى مجتمعة، باستثناء التيار الإخواني.
ولكم كانت دهشتي عظيمة، عندما استمعت من الرجل مباشرة، ومن زميله طبعاً، إلى حديث يتسم بالاستعداد للانفتاح على الآخر والاعتراف بوجوده، و"عدم جواز تكفيره"، بل وتجريم تكفيره من دون "ضوابط شرعية" على حد تعبيره، فوجئت بمستوى "المراجعات" التي أجراها (ويجريها) هذا التيار، خصوصاً لجهة مغادرته مربعات العنف والتكفير، ورغبته في الانخراط بميادين شتى من العمل العام، فوجئت بأن القوم قرروا افتتاح قناة للحوار بـ"الكلمة الطيبة" و"الموعظة الحسنة" على حد قولهم، بعيداً عن "العبوات" و"المفخخات" وفوهات المسدسات والبنادق.
هو تطور بلا شك، في مواقف هذا التيار واتجاهات تفكيره، كنا نعرف بحدوثه من باحثين مختصين، على صلة أوثق بعوالمه، وأذكر أنني قرأت للصديق محمد أبو رمان كتابات عدة في هذا المجال، وهو تبنى قضية الإفراج عن معتقليهم، ودعم توجهاتهم السلمية، وشجّع انخراطهم في المجتمع وعيشهم وتعايشهم مع بقية مكوناته، أعترف أيضاً، بأن الحديث مع قادة هذه التيار، لا عنهم، يمكن أن يعطي صورة أعمق وأدق، عن تحوّلاتهم، التي يفضلون أن يسمونها بـ"المراجعات"، مع تشديد دائم بالطبع، على ثوابت الشرع والشريعة، وهذا من حقهم على أية حال، وأعترف أيضاً أن أبو رمان كان سبّاقاً في إلقاء الضوء على تحوّلات هذا التيار والأجيال المتعاقبة من قادته وكوادره.
مع الحياة والناس / بقية
لقد كان حديثاً "ذا شجون"، لكن "المجالس أمانات"، وسنرجئ تناول بقية موضوعاته إلى أن يأذن لنا من وعدناهم بعدم التطرق إليها، وبانتظار المزيد من الحوارات الأكثر عمقاً وتوسعاً، لكنني استرجع الآن جملة من النقاط، من بينها:
(1) أن الحركات السلفية تميل لإجراء "المراجعات" بين حين وآخر، وهذا حدث تقريباً في معظم الساحات العربية، والأردن لن يكون استثناءً لهذه القاعدة أو خروجاً عنها.
(2) أن هذه الحركات، ليست من طينة واحدة، وإن كان بينها من المشتركات، ما يجعل وقوع الالتباسات والإشكالات، أمراً ممكناً، وهنا أستحضر العتب الدائم للصديق أسامة شحادة، الذي طالما أخذ عليّ وضع السلفيين جميعاً من شتى المنابت والأصول الفكرية والحركية، في سلة واحدة، وكذا فعل "أبو سيّاف".
(3) أن الفجوة مع التيار السلفي على اتساع وتعدد مدارسه ومشاربه، لا تزال، والأرجح أنها ستبقى متسعة للغاية، صحيح أن مغادرة مربع العنف والتكفير، أمرٌ بالغ الأهمية، وصحيح أيضاً أن أي انفتاحٍ على الآخر وتلاقحٍ مع إفكاره، سيعدُّ خطوة تستحق الدعم والتشجيع، لكن الصحيح كذلك، أن للقوم نظرة أخرى مغايرة، لمعظم أن لم نقل جميع، عناوين برنامج الإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي الذي نؤمن به ونرفع رايته، ما يجعلنا ويبقينا في موقع آخر وخندق آخر.
جديد السلفيين من هذا التيار، أن الحوار معهم صار ينهض على قاعدة "كلمة مقابل كلمة" و"فكرة مقابل فكرة"، ساحاته وميادينه الغرف المفتوحة للهواء والقاعات الفسيحة المُشمسة، ولم يعد بالضرورة حوار المسدسات والمفخخات الذي تكاد ساحاته تنحصر في "الزوايا المعتمة" أو قاعات "أمن الدولة"، لقد اختلفنا مع هذا التيار زمن التكفير و"الإرهاب"، وسنختلف معه، زمن "المراجعات" و"التحولات"، لكن شتان ما بين الظرفين والاختلافين، لقد وصف "أبو سيّاف" مقالات كاتب هذه السطور، بالشديدة والقاسية على أنصاره، لكن مهما كانت قسوة الكلمة وشدتها، تظل مع ذلك كلمة، وهي بخلاف المثل الدراج، ليست كالرصاصة أبداً، نريد أن نختلف بالكلمات، وبالكلمات فقط، فنحن أعضاء في "نادي التعددية" ولسنا أعضاء في "نادي الرماية أو ميادينها".