من المتوقع أن تعلن الحكومة قريباعن تفاصيل إنشاء صندوق تنمية المحافظات الذي أمر به الملك قبل أسابيع. يأتي هذا التطور وسط نقاش حاد يخلط بين المفاهيم والأطر السياسية والتنموية، والحقوق والموارد، وتشوبه بين وقت وآخر حالات استقطاب واستقواء متبادلة، بينما تشهد قضية الفجوة التنموية العميقة التي تعاني منها معظم محافظات البلاد عملية تسييس غير مبررة، وتخرجها من طابعها الحقوقي المحسوم وغير القابل للنقاش والذي يفترض من كل الفرقاء، وقد اتفقوا على عناوين الإصلاح الكبرى ومهما اختلفوا في التفاصيل، أن يلتفوا حولها.
إن السياق التاريخي والاجتماعي للحراك الشعبي في المحافظات واضح في أهدافه ومضمونه السياسي والاجتماعي، ولا يحتمل أي مزاودة أو تحميله ما لا يحتمل من هذا الطرف أو ذاك، ويكمن في جوهره العميق في الفجوة التنموية التي تم إثباتها منذ عقود بالدراسات والأرقام، ونراها كل يوم بالوقائع ولا تحتاج إلى فتاوى، إذ لاحظنا ذلك خلال الأشهر الماضية في تقارير وكتابات هنا وهناك، بعضها كتب للاستهلاك المحلي، وأخرى أعدت لجهات أجنبية في محاولات تغمز النظام السياسي مرة بأن يعيد ترتيب أرصدته الشعبية وخرائط الولاءات، ومرة في محاولة التشاطر وتفصيل منطق اقتصادي وتنموي له تعريفاته الخاصة للفقر والبطالة والجوع وفق مسطرة تزيد من الحرمان والتهميش وتضاعف من مشاعر النقمة، ومرة ثالثة بمحاولة شيطنة المحافظات سياسيا وتنمويا. ولعل برقيات السفارة الأميركية المسربة في حديثها عن واقع مدينة معان القلقة تثبت محاولة أحد وزراء الداخلية السابقين تبرير ما تعرضت له المدينة من إهمال وأعمال قمع بركوب منهج الشيطنة ذاته، بينما تؤكد تعليقات محرر البرقية أن معان تحولت بفعل التهميش إلى مجرد محطة شاحنات مغبرة ومهملة على أطراف الصحراء.
تثبت كل الوقائع أن أجيالا من الحكومات مارست إهمالا وتهميشا كادا في بعض المراحل يكونان ممنهجين لشؤون المحافظات. ولو قامت جهة محايدة بدراسة حجم الموارد التي فرغت المحافظات منها على مدى ثلاثة عقود واستهلكت على حساب أجيالها مقابل حجم ما أنفق، فسنجد أن المفارقة مذهلة.
أمام صندوق المحافظات تحديات هائلة في سد فجوة تنموية عميقة يعاني منها أكثر من نصف السكان ونحو 90% من مساحة البلاد. هذه الفجوة تتعمق إذا ما علمنا أن مجموع ما أنفق على الطرق والبنى التحتية داخل المحافظات خلال آخر عشر سنوات ربما لا يساوي ما أنفق على جسر عبدون، وأن استثمار الدولة في الخدمات الصحية في تسع محافظات خلال عقد لا يساوي توسعة مستشفى السرطان وحدها، وأن جامعات المحافظات التي أنشأتها حكومات لاعتبارات سياسية في لحظة ما مفلسة تماما، ومجموع إيراداتها أقل من أرباح واحدة من شركات التعليم أو موجودات صندوق الاستثمار في إحدى الجامعات، بينما يعاني قطاع التعليم العام في المحافظات من فجوة مقدرة زمنيا، وبأرقام الإحصاءات العامة، في نسب الأمية والالتحاق بعمر عشر سنوات عن المعدلات الوطنية؛ أي أن الأردنيين في معظم المحافظات يحتاجون عشر سنوات أخرى حتى يلحقوا بالمعدل الوطني في التعليم العام، إذا ما استمرت أرقام النمو كما هي في المحافظات مقابل ثباتها على المستوى الوطني.
يمكن أن يوفر صندوق تنمية المحافظات أرضية حقيقية وصلبة لانطلاق مسار جديد في التنمية المحلية في المحافظات، إذا ما أرسى أسسا جديدة في توليد الموارد المحلية والحفاظ عليها والإبداع في تنميتها، وإذا ما غلب المنظور التنموي–الاقتصادي على المنظور الاقتصادي وحده، أي الكفاءة والفعالية معا، وإذا ما ابتعد عن منطق الفرجة وإدارة التنمية بالعلاقات العامة والإعلام الرخيص والاسترضاء.
إن ملف المحافظات الأهم والأسخن، يحتاج إلى خطة طوارئ حقيقية وجريئة، وإلى فكر تنموي جديد. وكما تحولت الفجوات وتراكم الإهمال والتهميش ورداءة نوعية الحياة إلى مشاعر حادة ذات مضامين سياسية يعبر عنها الحراك الشعبي اليوم، فإننا لا ندري إلى أين سوف تذهب الأمور خلال شهور وسنوات مقبلة إذا ما أعيد تدوير الفشل من جديد، وأعدنا إنتاج الحلقة المفرغة نفسها.
تسييس المحافظات
أخبار البلد -