من المبكر كتابة تاريخ الحراك الشعبي الأردني الذي سبق عصر الربيع العربي، وأخذ يبرز كقوة ملموسة على الأرض منذ العام 2009. حينها جرت محاولات إعلامية لخلط الأوراق عبر خلق حالة من الالتباس بين الحراك الشعبي الذي بدأته المحافظات وبين العنف الاجتماعي.
مر الحراك الشعبي بثلاث مراحل أساسية. الأولى، مرحلة الحراك المطلبي الذي أُسس على مطالب خدماتية محددة، ثم تطور إلى مطالب حقوقية في بعض الحالات، حيث أمسكت الخيط فئات اجتماعية ومهنية، مثل عمال الموانئ والمعلمين، وطورت خطابها المطلبي نحو خطاب حقوقي.
المرحلة الثانية اتسمت بالانتهازية والرمادية التي غابت فيها الحدود الواضحة، وابتعدت أحياناً عن اللعب النظيف، كما هو معروف في لغة السياسة. ولاحظنا ذلك في رفع سقف التوقعات، وزيادة جرعة المطالب وغموضها وتناقضها أحياناً.
أما المرحلة الثالثة الراهنة، وهي الحراك السياسي، فما تزال في حالة مخاض حقيقي، ولم تولد بشكل مكتمل وواضح الملامح. فمن المفترض أن الحراك الشعبي راكم خلال أكثر من 30 شهراً خبرة واضحة الملامح، وأفرز وعياً حول مبادئ عامة وقيم مشتركة وآليات معروفة لتصعيد المطالب وللتعبئة الاجتماعية وتشكيل المواقف السياسية حولها، وهو الأمر الذي لم يكتمل إلى هذا الوقت. فالحاجة إلى مسار هادئ من الإصلاحات لا يتناقض مع وجود حراك شعبي منضبط ويقظ، بل إن الحاجة لهذا الحراك في مواجهة مصادر التهديد الداخلية والخارجية ضرورة ملحة في مسار بناء الدولة الوطنية الديمقراطية.
نلاحظ خلال الأشهر الماضية كيف أن الدوران في حلقات مفرغة من الصراع حول القضايا المركزية (الهوية والمواطنة ومنهج التحول الديمقراطي) بدون وجود مبادرات أهلية قوية، يستهلك القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة، وينحت من رصيد الثقة، ويزيد من تراكم مشاعر النقمة وسط قواعد اجتماعية واسعة غير مسيسة وتنتظر نتائج سياسية واجتماعية لهذا الحراك، تنعكس على معاشها اليومي. فيما نلاحظ كيف تحاول الواجهات التقليدية أن تملأ هذه الفراغات؛ فثمة واجهات عشائرية تتصدر الحركة الإصلاحية هذه الأيام، بل إن حالة الدوران والفراغ تضرب وبأشكال متعددة في أوصال الدولة وأعصابها المشدودة التي تحولت إلى منهج إدارة الأزمات وتسكينها أكثر من حلها، وسط إقليم مضطرب تسيّره المفاجآت والطوارئ أكثر من أي شيء آخر.
توجد قناعة لدى فئات واسعة أن مسار الإصلاح يسير ويحقق إنجازات جزئية، ولكن ببطء، ووسط حقول شاسعة من الألغام، إلى جانب حالات من الاستقطاب السياسي والاجتماعي المفتعل أحياناً، إلى جانب استمرار تنامي الفجوة التنموية وازدياد مشاعر السخط والنقمة الاجتماعية. والخطورة أن ذلك الاستقطاب يتسلل إلى المستويات الاجتماعية العريضة، في حين أن المبادرات السياسية الأهلية التي ظهرت مؤخراً لم تستطع أن تملأ فراغ التسييس المطلوب، ولم تشيد عقلانية سياسية أردنية متماسكة تخدم مسار بناء الدولة الوطنية الديمقراطية وتجيب عن أسئلة المجتمع والدولة التي تتجاوز الحكومة والبرلمان معا.
المرحلة الثالثة من الحراك الشعبي تحتاج إسعافا سياسيا بمبادرات مجتمعية خلاقة، سياسية وفكرية، تُخرِج الحراك الشعبي من الدوران حول الذات، وتملأ تراكم الفراغ المنتظر بعد الانتهاء من الإصلاحات التشريعية الجزئية الجارية حالياً.