تتدحرج تداعيات إقالة محافظ البنك المركزي فارس شرف، لتدخل الحكومة في أزمة والبلاد في سجال، بدايةً من الغضبة الإعلامية وتبادل النخب لتفسيرات مقلقة حول أسباب القرار، ثم استقالة العين ليلى شرف (والدته وزوجة المرحوم عبدالحميد شرف) من مجلس الأعيان، واستنفار القوى السياسية والكتل البرلمانية على خلفية الموضوع.
هذه التطورات أجبرت رئيس الوزراء على محاولة تقديم تفسير للقرار المفاجئ، الذي يرى فيه خبراء قانونيون واقتصاديون مخالفةً صريحة لقانون البنك المركزي الذي يحدّد أسباباً معينة واضحة لإقالة المحافظ.
الرئيس تحدّث بالتفصيل عن مواقف شرف الفكرية، كالإيمان بالسوق الحرّة، ورفع الأسعار، وعدم الإيمان بالمشاريع الاقتصادية الصغيرة، ومخالفة الاقتصاد الاجتماعي.. في المقابل، وفقاً للبخيت نفسه، فإنّ الحكومة تركز على دعم السلع، والمحافظات، ولم ترفع الأسعار.
ثم ردّ شرف (في لقاء مع نخبة من الإعلاميين) على الأسباب التي ذكرها الرئيس البخيت، ومدافعاً عن موقفه الليبرالي الاجتماعي، فتحول النقاش من "إقالة" (استقالة شكلاً) لمحافظ البنك المركزي، فيها قدر كبير من الغموض، إلى نقاش حول المدارس الليبرالية ومواقف محافظ البنك المركزي الفكرية!
هنالك ما أحجم شرف عن قوله في لقائه أمس، وفي رده على البخيت، هذا على الأغلب، وهو ما ألمحت إليه العين ليلى شرف في تعقيباتها السابقة. لكن في المقابل، فإنّ توضيحات الرئيس غير مقنعة مبدئياً، إذ لا توجد علاقة مباشرة بين الدور الاقتصادي لمحافظ البنك المركزي (سعر الصرف، سعر الفائدة والمعروض النقدي) بموضوع الاتجاه الليبرالي لشرف، كما جاء على لسان البخيت نفسه، وكأنّ هذه الصفة أصبحت تهمة، برغم أنّ الاقتصاد الوطني محكوم بمبادئ وقوانين ليبرالية واضحة!
بالطبع، لم يسمع أحد من شرف هذه المواقف، ولم يقدّمها في مقابلات أو أحاديث إعلامية، لكن الرئيس نسب معلوماته عن شرف إلى ما يقوله الرجل في "الصالونات السياسية" أو في اجتماعات رسمية مغلقة!
إذا كان الأمر كذلك، وإذا كان مصير من يتبنى المواقف "الليبرالية" هو الإقالة من مؤسسات الدولة! فلماذا يحتفظ الرئيس بفريق اقتصادي لا يتحدّث سرّاً عن مواقفه الليبرالية في صالونات سياسية مغلقة، بل يتحدث عنها في العلن وخلال نشرات الأخبار الرسمية، ويقاتل داخل الحكومة لرفع الأسعار وتغيير سياسات الدعم وعلى رؤوس الأشهاد، وهذا الفريق هو المسؤول عن ترسيم سياسات الحكومة الاقتصادية، وليس محافظ البنك المركزي!
مرافعة الرئيس عن قرار بهذا الثقل السياسي بدت متواضعة، في ظني، أمام التصريحات النارية التي أطلقتها العين ليلى شرف، عندما تحدثت مباشرة وبوضوح عن أسباب إقالة شرف وربطت ذلك بمحاولته "مقاومة الفساد".
ما يهمنا هو الصدى المباشر في الشارع لما حدث مع شرف ولاستقالة العين ليلى شرف. إذ إنّ ردود الفعل الغاضبة من الإعلام والمعارضة انتقلت إلى الحراك الشعبي، والانطباع العام (وهو أهم من الحقيقة) بأنّ الحكومة غير قادرة على تحمل رجال أقوياء مؤهلين لهم استقلاليتهم واحترامهم في الرأي العام يحمون مصالح الدولة والشعب، ويردون الاعتبار للموقع الرسمي، ويحافظون على حرمة المال العام!
بالتأكيد، لم يكن يتوقع الرئيس مواجهة هذه الكرة المتدحرجة وأن يتحول القرار إلى أزمة سياسية وقضية رأي عام، ولو قبلنا –جدلاً- بنفيه ما يقال في "سوق التكهنات"، فإنّه أخطأ في تقدير حجم القرار وأبعاده وتداعياته المتوقعة، وهو ما خلق له أزمة عاصفة في وقت صعب جداً!