مفهوم الملكية الدستورية في النظام الدستوري الأردني
«السلطة نشوة تعبث بالرؤوس» غوستاف لوبون
بقلم المحامي الدكتور: جهاد الجراح – قسم القانون المقارن – جامعة العلوم الإسلامية العالمية
فاتحة القول في هذا المقام أن من أهم خصائص القاعدة القانونية – ومنها القاعدة القانونية الدستورية – أنها قاعدة اجتماعية، وهذا يعني أن القانون ما هو إلا مرآة للبيئة التي يسود فيها، ذلك أن القانون يرمي إلى تنظيم الروابط الاجتماعية، ولهذا كان القانون أسبق في الوجود من وجود الدولة.
ومعنى هذا أن من محددات القاعدة القانونية الموروث الاجتماعي والأخلاقي والديني والسياسي للمجتمع، ولهذا يختلف القانون من دولة إلى دولة أخرى ومن بيئة إلى بيئة غيرها، فعلى صعيد القانون الجنائي نرى بعض الدول تطبق عقوبة الإعدام مثلاً، بينما لا تجيز ذلك أنظمة قانونية أخرى، وما هو مباح في بيئة معينة قد يكون مجرماً في بيئة أخرى، ويترتب على كون القاعدة القانونية قاعدة اجتماعية أن القانون متطور في الزمان ومتغير بحسب المكان، فهو يختلف من نظام اجتماعي أو سياسي إلى نظام آخر، بل إنه يختلف في ذات النظام السياسي فما يناسب المجتمع الريفي لا يناسب المجتمع الحضري وهكذا، ولذا كان حتماً على القاعدة القانونية أن تساير التطور الاجتماعي حتى يستجيب القانون للحاجات المتغيرة والمتطورة لأفراد المجتمع ولهذا نرى المشرع يتدخل من وقت لآخر فيلغي قانوناً ويعدل آخر، وكل ما سبق بيانه ينطبق على القواعد التي تحكم القانون الدستوري.
والقانون الدستوري هو القانون الأساسي للدولة، إذ يحدد الأسس التي تقوم عليها الدولة وشكل تلك الدولة ونظام الحكم فيها ويبين السلطات العامة في الدولة – السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية – واختصاص كل منها وعلاقة هذه السلطات مع بعضها البعض، كما يقرر الحقوق والواجبات والحريات الأساسية للأفراد وضمانات هذه الحريات، والقانون الدستوري يعد أسمى القوانين في الدولة ولذلك لا يجوز أن يصدر أي قانون آخر يخالف أحكامه أو يتعارض معه (مبدأ تدرج القواعد القانونية) ووجود دستور للدولة يعتبر أهم عنصر لما يسمى بالدولة القانونية، كما يعد الضمانة الأولى لخضوع الدولة للقانون، وينتج عن وجوده مبدأ المشروعية والذي يعني خضوع جميع سلطات الدولة وأفرادها لقواعد القانون، وبمعنى آخر سيادة حكم القانون.
وعماد الدستور وقوامه مبدأ على درجة عالية من الأهمية والخطورة يمسى مبدأ الفصل بين السلطات، والمقصود به عدم تركيز وظائف الدولة لدى جهة واحدة وتوزيع هذه الوظائف على سلطات الدولة الثلاث، حيث تتولى السلطة التشريعية مهمة تشريع القوانين بينما تتولى السلطة التنفيذية مهمة تنفيذ هذه القوانين وأخيراً تقوم السلطة القضائية بفض المنازعات وفق أحكام هذه القوانين.
وهذا المبدأ كما أنه يوفر الحماية للشعب من استبداد الحكام، فهو يعتبر سلاحاً قانونياً تجاه الحكومات المطلقة والتي تتركز فيها السلطة بيد فرد واحد – فهو لا يستمد السلطة من الشعب بل من ذاته وقدراته الشخصية – كما يمكن أن تتركز هذه السلطة في الحكومات المطلقة بيد هيئة معينة أو حزب واحد، وكل هذه الحكومات تندرج ضمن ما يسمى بالحكومات الدكتاتورية، ذلك أنها لا تعرف تعدد الآراء السياسية ولا تطيقها ولا تسمح إلا بلون واحد للحكم والسياسية، فهي تشرف وتهيمن على سلطات الدولة الثلاث وتحركها طبقاً لمشيئتها وآرائها ومبادئها، ومجمل القول أن تركيز السلطات في يد واحدة يؤدي إلى الغلو والتعسف فالنفس البشرية إذا ما استأثرت بالسلطة جنحت إلى الاستبداد وبالتالي الاعتداء على حقوق وحريات الشعب، ولذا جاء غوستاف لوبون ليقول: «السلطة نشوة تعبث بالرؤوس»، وعليه لا بد من لجم هذا الاستبداد بوسائل قانونية عبر توزيع السلطة على هيئات متعددة، فيكون للسلطة التشريعية مهمة تشريع القوانين، أما السلطة التنفيذية فيقتصر دورها على تنفيذ هذه القوانين التي تأتيها من مطبخ السلطة التشريعية، فيما تتولى السلطة القضائية مهمة القضاء بين المتخاصمين عبر تطبيق هذه القوانين، وبحيث يكون هناك نوع من الرقابة بين هذه السلطات على بعضها البعض، «فالسلطة توقف السلطة».
وعليه فإن هذا المبدأ يعد وسيلة أساسية لتحقيق الديمقراطية وحكم الشعب لنفسه، وصيانة حقوق وحريات الأفراد وصولاً إلى التوازن والتعاون بين هذه السلطات.
وإذا كان الأصل استقلال السلطة القضائية (الحكم) عن الحكام والمحكومين (السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية)، فيبقى قطب الرحى يدور بين السلطتين الأخيرتين وفق تناغم وتعاون وتوازن محكم.
وبما سبق جاء الدستور الأردني لينظم هذا العقد، فيبين ويفصل اختصاصات كل سلطة على نحو من الاستقلال تارة، ولكنه يشرّب هذا الفصل والاستقلال بروح التعاون ورقابة كل سلطة للأخرى تارة أخرى، فقسم السلطات إلى ثلاث، السلطة القضائية وخصص لها الفصل السادس من الدستور (المواد 97–110) ونص على أن القضاة مستقلون ولا سلطان عليهم لغير القانون، وبيّن أنواع المحاكم ودرجاتها واختصاصاتها وأن هذه المحاكم مفتوحة لجميع من يلجأ إليها طالباً إنصافه ومصونة من التدخل في شؤونها، وأن جلسات هذه المحاكم علنية حفاظاً على نزاهة وشفافية أحكامها.
أما السلطة التشريعية والتي هي عماد كل دولة ومنبع الفكر فيها ومستودع الخبرة لديها، لما لها من مكانة دستورية نظراً لأنها تمثل إرادة الأمة وصوتها المنافح عن قضاياها، فخصص لها المشرع الدستوري الفصل الخامس (المواد 62–96) وبين أن هذه السلطة تتكون من مجلسي النواب والأعيان، وجعل الغلبة لمجلس النواب (ممثلي الشعب) ويتجلى بعض ذلك من خلال ما يلي:
أولاً: مسؤولية رئيس الوزراء والوزراء عن السياسة العامة للدولة – سواء كانت مسؤولية تضامنية لمجلس الوزراء أم مسؤولية فردية لكل وزير عن أعمال وزارته – تكون هذه المسؤولية أمام مجلس النواب (المادة 51).
ثانياً: تطرح الثقة بالوزارة أو بأحد الوزراء أمام مجلس النواب (م 53/1).
ثالثاً: نصاب طرح الثقة يكون بالأكثرية المطلقة من أعضاء مجلس النواب (م53/2).
رابعاً: يكون طلب طرح الثقة بالوزارة أو بأحد وزرائها إما بناء على طلب رئيس الوزراء أو بناء على طلب عدد لا يقل عن عشرة أعضاء من مجلس النواب (م54/1).
خامساً: يترتب على كل وزارة تؤلف أن تتقدم ببيانها الوزاري إلى مجلس النواب خلال شهر واحد من تاريخ تأليفها، وأن تطلب هذه الوزارة الثقة أيضاً من مجلس النواب (م54/3).
سادساً: لمجلس النواب حق اتهام الوزراء جنائياً والوزير الذي يتهمه مجلس النواب يوقف عن العمل (م56، 61).
سابعاً: حق مجلس النواب في طلب عقد دورة استثنائية لمجلس الأمة (م82/2).
ثامناً: حصر عرض مشروع كل قانون يأتي من قبل رئيس الوزراء على مجلس النواب الذي له حق قبول المشروع أو تعديله أو رفضه، (م91).
تاسعاً: حصر عدد أعضاء مجلس الأعيان بما لا يزيد عن نصف أعضاء مجلس النواب.
أما في علاقة السلطة التشريعية بشقيقتها السلطة التنفيذية، فهنا تميل الكفة أيضاً لصالح الأولى ومن بعض مظاهر ذلك ما يلي:
أولاً: أن مهمة السلطة التنفيذية – وكما يدل عليه اسمها، إذ أن لكل شخص من اسمه نصيب – هي تنفيذ ما جاءها من تشريعات من السلطة التشريعية، وإذا لم تقم بذلك أو انحرفت عن ذلك عدّ عملها انحرافاً أو إساءة لاستعمال السلطة.
ثانياً: المسؤولية السياسية للحكومة وأعضائها في كل ما يتعلق بأعمالها وقراراتها المتعلقة بالسياسة العامة للدولة أمام السلطة التشريعية ممثلة بمجلس النواب (م51) حيث تقاس قوة السلطة التشريعية بفعالية وسائل الرقابة التي تمارسها على السلطة التنفيذية حتى يتاح للشعب ممثلاً بالسلطة التشريعية بمحاسبة الحكومة لمنع انحرافها.
ثالثاً: المسؤولية الجنائية للوزراء، وحق اتهامهم من قبل السلطة التشريعية (مجلس النواب) (م56).
رابعاً: حق كل عضو من أعضاء السلطة التشريعية أن يوجه إلى الوزراء أسئلة واستجوابات حول أي أمر من الأمور العامة (م96)، ويختلف السؤال عن الاستجواب من حيث أثر كل منهما ذلك أن الاستجواب عصا أغلظ من السؤال، فالأخير يعتبر استفهام عن أمر يجهله مقدم السؤال أو الاستعلام من الحكومة عن شأن من الشؤون التي تدخل في اختصاصها، أما الاستجواب فإنه يجوز أن يترتب عليه طرح الثقة بالحكومة أو بأحد الوزراء.
خامساً: على الحكومة واجب طلب الثقة من السلطة التشريعية خلال شهر واحد من تأليف الحكومة (م54/3).
سادساً: حق السلطة التشريعية بطرح الثقة بالحكومة أو بأحد وزرائها ولو بعد نيلها الثقة، وإذا قررت السلطة التشريعية عدم الثقة بالحكومة، وجب على الأخيرة أن تستقيل وإذا كان عدم الثقة خاصاً بأحد الوزراء وجب عليه اعتزال منصبه (م53).
سابعاً: وظيفة الرقابة المالية من قبل السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية من حيث ضرورة الموافقة على مشروع قانون الموازنة العامة للدولة والمصادقة على واردات الدولة ونفقاتها المقدرة لكل سنة مالية (م112)، وكذلك عدم جواز فرض ضريبة على المواطنين أو رسم إلا بقانون أي بموافقة السلطة التشريعية (م111).
أما السلطة التنفيذية، فخصص لها المشرع الفصل الرابع من الدستور وقسم هذا الفصل إلى قسمين: الأول، وخصصه للملك وحقوقه، والثاني حيث تناولت أحكامه الوزراء من حيث الشروط الواجب توافرها بكل منهم وصلاحياتهم ومسؤولياتهم، وكما يتضح مما سبق فإن السلطة التنفيذية تقوم على ما يسمى بثنائية الجهاز التنفيذي وفق تكامل للأدوار بينهما، فمن حيث: جلالة الملك – رأس الدولة – فهو مصون من كل تبعة ومسؤولية (م30)، فالملك باعتباره فوق التيارات السياسية ومجرداً من الميل لصالح فئة دون أخرى فإن هذا يستتبع أن يكون حكماً محايداً وعادلاً وناصحاً أميناً في توجيه دفة الحكم نظراً لما يتمتع به من احترام الجميع وبالتالي فإنه يستطيع إيجاد التوازن بين السلطات الثلاث في الدولة، فالعدل أساس الملك.
وقاعدة عدم مسؤولية رأس الدولة نشأت في النظام البرلماني الإنجليزي واستندت على عرف لديهم مفاده أن الملك لا يخطئ أو لا ينسب إليه خطأ، لذا اقتضى هذا الأمر وجوب أن يكون هناك هيئة مسؤولة، فنشأت الوزارة لتحمل عبء مسؤولية الأعمال التي تصدر باسم رئيس الدولة، وقد تجسد ذلك في الدستور الأردني حيث جاء في المادة (45): «يتولى مجلس الوزراء إدارة جميع شؤون الدولة الداخلية والخارجية...»، وبعد أن عمّم المشرع المسؤولية على مجلس الوزراء عاد ليخصص مسؤولية الوزير المنفردة، حيث نص في المادة (47) على أن الوزير مسؤول عن إدارة جميع الشؤون المتعلقة بوزارته، كما تعزز هذا المفهوم في المادة (49) بقولها: «أوامر الملك الشفوية أو الخطية لا تخلي الوزراء من مسؤوليتهم».
ومقتضى ما تم بيانه يعني أن السلطة الفعلية هي من اختصاص الوزارة، والوزارة بدورها تكون مسؤولة أمام مجلس الأمة، وذلك كله طبقاً لقاعدة تلازم السلطة والمسؤولية والذي يعني بأنه حيث تكون السلطة تكون المسؤولية.
وعليه فإن رأس الدولة لا يمكن له أن يباشر اختصاصات السلطة التنفيذية منفرداً إلا بعد أن يوقعها رئيس الوزراء والوزير المختص ومن ثم ترفع إلى جلالة الملك فقط للتصديق عليها (م48)، وهذا ما يعرف لدى فقهاء القانون الدستوري بالتوقيع المجاور، وبمعنى آخر فإن توقيع جلالة الملك يأتي لاحقاً لتوقيع رئيس الوزراء والوزير المختص، وتوقيع هؤلاء يعني أنهم موافقون على القرارات التي وقعوها وأنهم يتحملون المسؤولية عنها، ولا يمكن لأي جهة أن تقبل تحمل المسؤولية عن قرار معين دون أن يكون لها دور في اتخاذ ذلك القرار.
"ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب" [آل عمران: 8]
dr.jihad2000@hotmail.com