المباني القديمة والأسواق التجارية والمحلات وأسماء شهرتها التي اكتسبتها على مر السنين جزء من تاريخ الوطن، خصوصاً إذا ارتبطت بشكل أو بآخر بنشوء المدينة وتطورها. وكان لها دور في إكساب البلد سمعته عند المواطنين والسياح الوافدين.
ذاكرة المدينة محفوظة بين حجارة جدرانها العتيقة التي شهدت النشوء والارتقاء والأحداث والتطورات على مر السنين، ومحو هذه الذاكرة يعني ارتكاب جرم محو التاريخ وطمس العلاقة بينه وبين الأجيال الجديدة.
لقد ارتكبت حكومات متعاقبة -عن قصد، أو غير قصد، وتصرف بعيد عن الذكاء والمسؤولية الوطنية بالمحافظة على التاريخ والهوية- هذه الخطيئة تحت شعار التطوير والتغيير، فهُدم مبنى سينما البتراء التي شهدت اجتماعات مجلس الأمة في بداية تأسيس الدولة وإلى جانبها مقهى المنشية الذي كان موئلاً لكبار رجال الدولة من وزراء ونواب وأعيان وسياسيين وقادة أحزاب وتم بناء أسواق تجارية تباع فيها الأقمشة والألعاب والبقالة.
وبحجة التطوير.. تم هدم فندق فيلادلفيا الذي كان مقراً لرئيس الوزراء لأعوام طويلة، تشكل بين ثناياه الحكومات ويستقبل ضيوف الأردن الكبار لتقام مكانه ساحة ومطاعم شعبية لم تعمر طويلاً. وعادت المنطقة فارغة بلا روح ولا ذاكرة.. تقف حجارة المدرج الروماني شاهدة على بؤسها.
وامتدت يد التدمير لذاكرة المدينة، بحجة تطوير المباني إلى مقهى الجامعة العربية الذي يحمل اسمه رمزاً سياسياً قومياً، ليقام معرض للألبسة ومن قبله كان مقهى العاصمة، المقهى الوحيد الذي حمل اسم العاصمة يندثر لتجديد المبنى. ولن يكون فندق الملك غازي أحد اقدم الأبنية في قاع المدينة، آخر الأبنية المهددة، فهناك عدد من المباني من أبرز ملامح وسط المدينة، ترزح تحت هذا التهديد، ابتداء من سوق اليمنية، مروراً بسوق الصاغة، وصولاً الى مقهى السنترال بفعل قانون المالكين والمستأجرين الذي بات سيفا مصلتا يهدد ذاكرة المدينة بالزوال، ويهدد التجار الذين يشكلون عماد الطبقة الوسطى التي أصبحت تتآكل يوماً بعد يوم رغم حرصنا الشديد على بقائها والحفاظ عليها للمحافظة على توازن المجتمع.
لقد قامت الحكومة بإجراء تعديلات على القانون ورفعته الى مجلس النواب لدراسته، وحتى هذه اللحظة لم يحدث شيء جدي في الموضوع، سوى أن المستأجرين يتلقون الإنذارات بتنفيذ القانون الجديد ودفع الأجرة الجديدة التي لا يقدرون عليها. وأصبح القلق والخوف من المستقبل هاجسهم في الليل والنهار.
أبنية عمان العتيقة، تاريخها وذاكرتها التي تشكل قاع المدينة.. أمانة في أعناق الجميع، وأتذكر أن الدكتور معروف البخيت رئيس الوزراء كان فخوراً بمعرفته الوثيقة وعلاقته بقاع المدينة، رغم اعتراضه على التسمية، وطلبه أن يكون "وسط المدينة"، ومهما كان اسم هذا الجزء من المدينة، فإنه قاعها ووسطها وقلبها وعينها وذاكرتها وتاريخها المخزون في حجارة أبنيتها الشاهد على هويتها أمام الأجيال القادمة، إنه كل هذا وهو آيل إلى السقوط والاندثار مع القوانين التي تتعامل مع المصالح المادية وتجديد الإعمار والبناء على حساب التاريخ.
ليس المطلوب إنصاف المستأجر على حساب المالك، أو ظلم المالك لصالح المستأجر.. المقصود تحقيق العدالة للجميع، وسرعة البت في التعديلات داخل أروقة مجلس النواب، والأهم من كل ذلك المحافظة على تاريخ المدينة، والحفاظ على ذاكرتها.. إنها أمانة في أعناق الجميع، وعلى رأسهم.. رئيس الحكومة.
تاريخ المدينة.. يا رئيس الحكومة
أخبار البلد -