في حوار قبل يومين في المنتدى الاجتماعي الأردني، دار حديث مهم حول مفاهيم عديدة تتعلق بالمواطنة والتشكيل الحديث للدولة الوطنية واثر ذلك في صياغة الوعي الوطني بشكل عام. وتطرق الحديث كذلك لموقف الزعامات العشائرية الأردنية من الحركة الصهيونية في فلسطين في الربع الأول من القرن العشرين، وتلك الأسئلة المشروعة، تشير إلى أن الشخصية الوطنية عندما تتشكل لابد لها من أسئلة قلقة حول الهوية والحاضر والمستقبل.
مشروعية القلق تلك تجعلنا نعيد ترتيب الأحداث لرسم المستقبل. ولعل ذلك يؤكد أن القراءات المحملة بشحنات زائدة من الايديولوجيا تخلق إرباكا وتخبطا يؤسسان لفهم خاطئ للتاريخ وحركة المجتمع. ولذا سأذكر مثالين ربما يكونان تعبيرا صريحا عن هذا اللاوعي الذي يقدم مقاربة مع الحاضرانطلاقا إلى الماضي وليس العكس، فليس صحيحا على الإطلاق الحديث عن أن وعي الناس في فلسطين والأردن في بدايات القرن العشرين وأواخر القرن التاسع عشر، من الحركة الصهيونية كان ناضجا أو واضحا أو معروفاً كما هو عليه الحال في اللحظة الراهنة التي نعيشها. وإذا تم التعامل مع بعض الأفراد في الوكالة اليهودية، فلم يكن هذا التعامل، على معرفة أو دراية أو مجرد هاجس أو إحساس أن الوكالة اليهودية تسعى لشراء أرض فلسطين والتمهيد لوطن قومي فيها.
فلم تكن معالم المشروع الصهيوني لاحتلال فلسطين قد ظهرت في تلك الفترة على الأقل بالنسبة للسواد الأعظم من العرب، وهذا التعميم بطبيعة الحال ينطبق على الحالة الفلسطينية والأردنية والسورية، لذلك فان القراءات التي تحاول أن تحمّل الناس وزر التعامل مع الوكالة اليهودية في فلسطين تعتبر إسقاطا من الحاضر على الماضي، وتحمل الأمور أكثر مما تحتمل، وتدخل كثيرين من الناس في دائرة الشك والاتهام، وتجعل من الواقع الذي نعيشه ووعينا به إسقاطا على الماضي بدون معرفة ظروف تلك الفترة التي لم تكن فيها مصادر المعرفة والاطلاع التي نعرفها الآن. وهذا ليس خطاب تبرير لتلك المرحلة ولا إعادة محاكمة لشخوصها، ولا قبولا لفكرة التعامل مع الوكالة الصهيونية والحركة اليهودية بشكل عام، بل هو محاولة لفهم كثير من المواقف التي يتخذها البعض لتفسير بعض حيثيات التاريخ.
المثال الثاني الدخول في لعبة التاريخ بمنظومات تأسست وفق سياق يخدم الفكرة الصهيونية واليهودية ابتداء، فعندما ننسى عن قصد أو غير قصد أن هوية المنطقة بأسرها وعلى رأسها سورية الطبيعية لم تتشكل إلا بعد الفتح الإسلامي للمنطقة، ندخل في نفق التاريخ المظلم الذي يؤسس لحقائق تريدها المدرسة التاريخية اليهودية التي تسعى بكل الوسائل لنفي التاريخ الحقيقي وإحلال التاريخ الزائف، وهذا أيضا ينطبق على اللغة العبرية التي تسعى كل الدراسات اللغوية السامية لجعلها في المرتبة الأولى وأنها أصل اللغات السامية، وان العربية تأتي في مراتب متدنية، لذا وجب التوضيح حول كثير من المعطيات التاريخية التي يجري التعامل معها على أنها حقائق لا ترقى إلى الشك، رغم أن شكا يكمن فيها من لحظة طرحها.