تخطىء أصوات في المعارضة المطعمة بشباب التيار الإسلامي الأكثر تنظيما وتأثيرا في الساحة إن عادت لطرح فكرة تنظيم اعتصام مفتوح في إحدى الساحات العامة في سياق رفع وتيرة الضغط الشعبي على الحكومة. في المقابل تخطئ المؤسسات الرسمية إن واصلت التعامل مع المعارضة من باب تحشيد الشارع وتجييشه لتخوين الأصوات المطالبة بإصلاح النظام ووصمها بالشيطنة.
فالإصلاحات السياسية الموعودة منذ اشتعال الثورات العربية لم تصل إلى طريق مسدودة حتى تقرر قوى 24 آذار وغيرها من النشطاء تغيير مقاربتهم حيال النظام باتجاه التغيير. ولا بد من إعطاء المؤسسة الرسمية فسحة من الوقت, ربما لنهاية العام, حتى يتبين الغث من السمين رغم محاولات قوى الشد العكسي العاكفة ليل نهار على كبح جماح الإصلاحيين لحماية مكتسباتهم ونفوذهم على حساب الوطن والمواطن.
فترة السماح قد تكون ضرورية مع توجيه الحراك السياسي والمجتمعي نحو قنوات سلمية تساهم في الانتقال من مرحلة التنظير وبيع الأحلام على الورق إلى التطبيق على ارض الواقع. ذلك أن الحليب لا يتحول إلى لبن إلا بعد وضعه في مصفاة قماش مع بعض الخمائر وتركه لأيام.
نهاية الشهر الحالي تكشف لجنة مراجعة الدستور عن مقترحاتها لتعديل "أبو القوانين" وبعدها يقول الملك كلمة الفصل قبل تحويل المقترحات إلى مجلس الأمة لإقرارها دستوريا.
اللجنة حققت العديد من مطالب المعارضة بكل اتجاهاتها المتصلة بإصلاح النظام وتحصينه أمام تداعيات الثورات العربية. تمس التعديلات مواد رئيسية منها تحصين المجلس من الحل المفاجئ بدون إبداء أسباب مقنعة, تقييد إصدار قوانين مؤقتة, إنشاء محكمة دستورية, محاكمة وزراء متقاعدين أمام المحاكم النظامية وعاملين من خلال مجلس النواب. وتتعلق أيضا بتخفيض سن الترشح من 30 إلى 25 عاما وضمان حقوق متساوية بين الجندرين, تعزيز مفاهيم الحريات الإعلامية, السياسية وحقوق الإنسان.
حاولت اللجنة العودة إلى دستور 1952 مع تحديث يواكب روح العصر. وبعد ذلك, يفترض سن مشروع قانون انتخاب جديد وإجراء انتخابات مبكرة مطلع العام المقبل بعد تشكيل حكومة جديدة تشرف على الاقتراع بالتزامن مع تسريع البت في قضايا الفساد وسن قانون "من أين لك هذا".
على أن جنوح الحكومة والمعارضة إلى شيطنة متبادلة لن يساهم في ضمان الأمن والاستقرار المطلوب.
فحال حاملي لواء الاعتصام كحال الخطاب الرسمي المتخشب. كل طرف يحاول حشر الآخر في الزاوية والجميع يضغط على الإعلام ليحشد مهمة "فزعة للوطن" أو "فزعة للمعارضة". لذلك من الملح الآن عقلنة موقفي الطرفين لبناء إجماع وطني وثني الجميع عن تفصيل ثوب الإصلاح على مقاسه. وبدون خلق بيئة داخلية مساندة تشكل رأيا عاما داعما لإصلاحات متكاملة ترضى بها الغالبية لن يستفيد احد.
ونخشى أن ينطبق علينا مثل: "على نفسها جنت براقش".
الحمد لله أن مسلسل "ساحة النخيل" لم يتكرر هذا الأسبوع رغم استمرار المسيرات الأسبوعية المطالبة بمئات العناوين, وإن كان شعارها المشترك تسريع الإصلاح, مكافحة الفساد وحماية الحريات الإعلامية المهددة.
هناك من ينتقد تفرد أقلية ضمن قوى 24 آذار في محاولة تنظيم اعتصام مفتوح على شاكلة مشروع 15 تموز الذي انتهى بمواجهات دفع ثمنها صحافيون. هذه القلة تبدو مهووسة بنقل أجواء ميدان التحرير إلى عمان كضمانة لترجمة وعود الإصلاح إلى واقع. لكن هذا التأزيم من أجل التأزيم سيلقي بظلاله على الدولة بكافة مكوناتها. فالغالبية تريد إصلاح النظام بالطرق الدستورية. ولا يمكن لأي عاقل الدفع باتجاه اعتصام مفتوح في محاولة ربما لتغليب أجندته الخاصة على أجندة الوطن. في ميدان التحرير بالقاهرة, انتهى الاعتصام بالإطاحة بالرئيس, وضاعت معه بوصلة الدولة. واليوم يخشى عديد مصريين من مبادرات جهات مسيسة تحاول ركوب الموجة الشعبية مع ما تحمله من مخاطر انهيار الدولة بعد إسقاط النظام. في تونس الوضع ليس أفضل حالا.
الوضع هنا مختلف. ويجب أن لا ننجر وراء خطابين متناقضين; رسمي يسعى لقنص المتظاهرين, ومعارضة تتحدث عن "إسقاط النظام" بينما تحاول جهات استغلال ظروف الأردنيين المعيشية لتحقيق أجنداتها.
فلو كانت الحكومة تعي أن هناك جهات تحاول استغلال ضنك العيش, فعليها أن تحبط ذلك من باب تحسين الوضع الاقتصادي. أيعقل أن تتأزم الدولة وتشعر مواطنيها بأنها آيلة للسقوط كما حدث عندما تجمهر 400 شخص في ساحة النخيل ? رواية انتشار قناصين يسعون لخلق فتنة حجة ساذجة. كيف يمكن ل¯ 400 شخص أو مجموعات من المعارضة الوصول إلى هكذا مرحلة متقدمة من فنون العمل العسكري? فالجيوش المتقدمة لا تعتمد إلا على حفنة من القناصة لأن تدريب الفرد ليصبح قناصا يحتاج وقتا وجهدا.
من هنا يفضل أن تختار الحكومة مصطلحاتها السياسية بدقة وتبتعد عن الارتجال في إصدار تحليلات بدون أدلة أو محاولة لوم الإعلام.
في المعيار ذاته, يؤمل أن يعي التيار الإسلامي وزن ما يصدر عنه من تصريحات وفتاوى. ففتوة الاستشهاد وقبلها فقدان الأمل بقدرة الدولة على الإصلاح خسّرت الإسلاميين هنا بقدر ما كسبت جماعتهم الأم في مصر.
كما أن دعوة 15 تموز للاعتصام خسّرت الحركة الشبابية هنا بقدر ما كسبته الحركة الشبابية في مصر. لذلك, من الأفضل للمعارضة, إسلامية أو وطنية, الكف عن استيراد مصطلحات وعناوين للمسيرات الأسبوعية من دول الجوار لا تنطبق على واقعنا. وعلى الحكومة أيضا وقف استيراد أفكار من دول الجوار كالاستعانة ب¯ "البلطجية" واتهام المعارضة بالتآمر مع جهات خارجية أو نيتها استخدام أساليب عسكرية.
أما آن الأوان لصحوة تنقذ الدولة من خطر التراجع.
من حق الإعلام والنواب, الأحزاب والقوة المجتمعية مواصلة التشكيك بجدية نوايا الإصلاح إلى أن يلمسوا نتائج.
ربما كان من حق القوى السياسية الاعتصام في حال لم تتشكل لجنتا الحوار الوطني والتعديلات الدستورية. فلو كان الوضع بهذا البؤس لكانت دعوة مثل تلك الصادرة عن قوى 24 آذار قد حشدت 400.000 أردني وأردنية وليس 400 شخص.
لكن أمل الإصلاح لم ينته بعد. والمطلوب الآن استمرار الحراك السياسي وحتى التظاهر السلمي لإبقاء الضغط الشعبي من أجل تنفيذ وعود الإصلاح لحماية الدولة.
صحيح أن الأردنيين منزعجون من تردي الوضع المعيشي وتعدد المرجعيات وصراع أصحاب النفوذ إلى جانب بطء مكافحة الفساد وتراجع الإصلاح السياسي. لكن بدلا من مخاطبة هذه التظلمات, تسعى الحكومة لشيطنة المعارضة. بعض قوى المعارضة بقيادة الإسلاميين تحاول رد الصاع صاعين. والمشكلة أن غالبية المتنفذين يقولون شيئا في الصباح ويفعلون العكس مع مغيب الشمس.
هل أصبحت مرجعية الدولة إما "أبو منقل" أو "أبو سليمان", نسبة إلى رئيس الوزراء د. معروف البخيت. منقل بيد شرطي سير تمكن من تكسير عظام معتصم يوم جمعة ضمن سلسلة اعتداءات منها موقعة دوار الداخلية ومسلسل ضرب الصحافيين والتعدي على مكتب وكالة الصحافة الفرنسية.
لماذا يستقوي الكل على الكل هذه الأيام?
بعض المؤسسات الرسمية تستقوي على الشعب بأدوات مخفية. وبعض مكونات الشعب تستقوي على غيرها عبر الفتاوى وغيرها من أدوات التحشيد والتخوين. من قال إن الشرطي غير قادر على ضبط الشارع لكي تستعين الحكومة بالبلطجية? ومن الذي يعطي المعارضة صلاحية إدخال نصف الشعب الأردني إلى الجنة وزج البقية في جهنم.
الحكومة والمعارضة أخطأتا في تعاملهما مع الإعلام الرسمي وغالبية الخاص. فغالبية المؤسسات الرسمية تصطف في مواجهة الصحافة وكأنها شريكة للمعارضة بينما تحاول المعارضة التعامل مع السلطة الرابعة على أنها حليفة. الإعلام لا شريك له. إذ يفترض به أن ينقل الحدث ويحلل معطياته بينما يستطيع كتاب الزوايا التعبير عن رأي أو موقف.
من مصلحة البلاد والعباد إنهاء الانقسام داخل المطبخ الرسمي, وتوقف الحكومة والمعارضة والصحافة عن شيطنة الآخر حتى يقوم كل طرف بما يمليه عليه واجبه الوطني لتحصين الأردن والسير به صوب دولة المواطنة, سيادة القانون والتعددية.0