الحكومة بدورها وعلى رأسها رئيس الوزراء هاني الملقي انشغلت في لقاءات وحوارات مع كافة القطاعات في المملكة، لمناقشة القرارات التي كان آخرها امس الاحد بلقاء موسع مع الصحفيين من وسائل اعلام متعددة، ورغم ان توجيه الضرائب يمثل الهم الوطني الاكبر، الا ان الجمهور الاردني تفاجأ بإعلان رئيس الوزراء عن انهاء المخططات لبناء عمّان الجديدة لتكون بمثابة العاصمة الجديدة للبلاد.
امر مربك للغاية، ففي ظل تفاقم الاوضاع المالية والنزعة العامة للتقشف واستثمار الموارد المتاحة والمتوفرة الى اقصى حد لتعظيم الانتاجية، تظهر مشاريع غاية في الغرابة لا تتعلق بالطاقة المتجددة او الطرق او المياه او تطوير الصناعة والزراعة إنما ببناء منشآت جديدة لتكون عاصمة جديدة؛ أي المزيد من المباني التي ستفتح شهية قطاع العقارات والاراضي لتثير اهتمام المستثمرين والمغتربين لبعض الوقت سيحاول بعضهم معرفة الحقائق المرتبطة بهذه المعلومة الغريبة.
أمر جيد وتكتيك فيه قدر من الذكاء "بناء عمّان الجديدة" على امل جذب اهتمام المغتربين والمستثمرين وتشغيل الأيدي العاملة وتطوير الاحياء لننتهي من ظاهرة العمّانات او لإنقاذ سوق العقارات، او للتخلص من عبء شق طرق جديدة في عمان كالباص السريع الذي ادى الى ازمة سير كبيرة، وكلما تقدم خطوة اصطدم بمزيد من الجسور والانفاق.
في كل الاحوال مشروع جيد وتفكير سليم اذا افضى الى تحويل عمان كاسطنبول بحيث لا نرى ظاهرة العمانات بل كل الاحياء راقية، ولكن البلاد ترزح تحت ضغوط اقتصادية كبيرة، فالتصنيف الائتماني للبلاد تراجع الى B+ والمديونية ارتفعت والعجز في الموازنة قبل المنح الاعلى قياسا بالعام الماضي، وحالة الاحباط واليأس كبيرة من امكانية ايجاد مخرج عملي وحقيقي فهل بناء عاصمة جديدة يعد مخرجا مناسبا الان وأولوية، ام ان الامر يتطلب اصلاحا اقتصاديا واستراتيجية جديدة اكثر واقعية.
هل ستستخدم الاموال التي يتم توفيرها من وقف الدعم على المواطنين والمقدرة بـ850 مليون دينار في بناء العاصمة الجديدة وبنيتها التحتية مثلا، ام في سداد الديون وخفض المديونية وتعزيز التقشف الحكومي.
في الحقيقة إن الامر مربك جدا والاعلان مثير للاضطراب؛ الاردن بحاجة الى نظرة واقعية تحد من شبح التضخم المقبل الذي سيهدد الاقتصاد الكلي للبلاد بكل ما تعنيه الكلمة.
الرأي العام الاردني لا يريد وعوداً ولا مدناً وعواصم جديدة تزيد من شعور الفقراء بالعزلة والعجز، ما يريده إجراءات اقتصادية حكومية توقف الهدر وتعوض عن الاسواق المغلقة وتستحدث قطاعات انتاجية جديدة عندها سيبني العمانيون المدينة الجديدة بسهولة كبيرة دون ان تكلف الحكومة شيئا يذكر؛ بحيث تصبح الاجراءات المالية المراد اتباعها التي سيدفع ثمنها ذات جدوى بعد خمس او حتى عشر سنوات من الان، لا أن تكون سببا في تعزيز الفجوة بين الشرائح الاجتماعية.
استراتيجية تستثمر فيها اموال الدعم المقتطع في تحسين المناخ الاستثماري والخدمات العامة لا مدن للاغنياء يحظر على الفقراء السكن فيها، وهو الانطباع الاولي لهذا الاعلان المباغت الذي سيساء فهمه على الارجح.
العاصمة الجديدة لا تقدم حلولاً للاردنيين بل ستشعرهم ان هناك من يريد بناء اسوار جديدة بعيدا عن عمّان القديمة المنهكة بالفقر والضرائب والغلاء.
المسألة بحاجة الى مزيد من التوضيح فالسياق الاقتصادي حساس جدا؛ فإما أن نستثمر في قطاعات جديدة ونجلب المستثمرين والمغتربين واما أن نسدد قروض البلاد ونوقف العجز ونشجع التصدير ونجذب المغتربين والمستثمرين، واما ان نبني عمّان جديدة ونجلب المغتربين والمستثمرين وتشغل الايدي العاملة، واما ان نستثمر في التخطيط لمستقبل لن يأتي ابدا؛ فهي خيارات من متعدد ولا يمكن القيام بها معا في ذات الوقت