كانت زوجتي قد استعارت سيارتي للذهاب إلى الزرقاء للاجتماع بأهلها وقضاء بعض الحوائج هناك، فأنا نفسي لا أحبذ استخدام وسائل النقل العام فضلاً عن السماح لزوجتي باستعمالها نتيجة سوء تلك الوسائل كما لا يخفى على أحد، ابتداءً مما يصدر عن محصلي الأجرة "الكنتروليّة" وسجائرهم وكلماتهم البذيئة ومعاكساتهم "للخس" كما يحلو لهم أن يصفوا به الفتيات الجميلات، وصولاً إلى المقاعد الممزقة والمتسخة وغير المريحة ودخان السجائر الذي يفوح في أرجاء الحافلة، وانتهاء بالسرعة الجنونية والتجاوزات القاتلة للسائقين. فقد أحببت أن أروي لكم قصتي في ذلك اليوم الذي كانت فيه سيارتي الخاصة مع زوجتي الحبيبة.
أوقفت سيارة أجرة بعد إنتهاء عملي في تمام السادسة مساءً في ذلك اليوم الصيفي معتدل الحرارة، وطلبت من السائق التوجه إلى موقف باصات الزرقاء قرب "دوّار" المدينة الرياضية، وعندما وصلت إلى الموقف كان هناك ثلاثة "باصات" تصطف خلف بعضها البعض. فركبت في "الباص" صاحب الدور، وهنا بدأت تتلاحق الأحداث، حيث كنت أحمل بعض الجرائد في يدي ووضعتها أمامي إذ كنت قد جلست في المقعد الأماميّ المجاور لمقعد السائق، فطلب السائق إليّ وضع الصحف بجانبه، ولعلّه طلب مني ذلك خشية أن تحجب تلك الجرائد رؤيته للمرآة الجانبية نتيجة السرعة التي سوف تتسبب ودون أدنى شك بتطاير تلك الصحف إذ لا يسعني إغلاق نافذتي لسوء ما أجد من رائحة السجائر. المهم ظننت أن السائق يحسب أن لا مالك لتلك الصحف، فقلت له بكل أدب: "معلش، هذول الجرايد إلي"، فنظر إليّ بعصبية وقال: "أي أنا يا زلمة ما بعرف أكتب اسمي حتى أقرا جرايدك"، ثم أشعل سيجارة تعبيراً عن عصبيته للمهانة الكبرى التي تسببت له فيها من وجهة نظره، وبدأت بعد ذلك مغامرة الموت...
بدأ السائق بقيادة "الباص" بسرعة جنونية بين السيارات وعلى جميع المسارب، وبدأت صيحات "الكنترول" تعلو: "نزل على راحتك يابا"، و"طلع هالخسة...طلع"، مع أن "الباص" ممتلئ وليس به مقعد واحد شاغر، ولكن فكعادتهم فإن "الكنتروليّة" يعزفون على نغمة الشهامة التي تعرف عن شبابنا النشامى الطيبين: "معلش تقعد هالصبية يا حُصة"، وإن كان ليس للشهامة أي علاقة بهذا الموقف، إذ غالباً ما يكون هناك العديد من الحافلات القادمة فضلاً عن أن نية الشهامة غير موجودة لدى معظم هؤلاء "الكنتروليّة" لما يعرفه الجميع عن المعاكسات وبذاءة القول التي غالباً ما ترتبط بمعظمهم، ولا أقول جميعهم، إذ أن بينهم شباباً طيباً لا يهمه سوى تحصيل اللقمة الحلال من هذا العمل الحلال...عودة إلى خط رحلتنا، تتعالى صيحات "الكنترول" قبل كل محطة، والمحطات هنا ليست رسمية وإنما هي محطات متعارف عليها بين السائقين والركاب، والويل كلّ الويل لمن نسي تذكير "الكنترول" بمحطته القادمة قبل وقت من نزوله، فأقلّ ما يمكنه مواجهته هو نظرات استحقار وتعليقات بذيئة، كما أن عليه الاستعداد قبل المحطة بقليل من أجل القفز من "الباص" إذ أن النزول بطريقة محترمة بعد توقف الحافلة يعد ميّزة ليست متاحة لركاب عمّان-الزرقاء في معظم الحالات. ولا يفوتني هنا الحديث عن تدخين السائق وقيادته للحافلة وتحدثه مع "الكنترول" عن كيفية "طحنه" لسائق زميل بعد أن سبقه إلى إحدى المحطات المزدحمة بالركاب على الخط فضلا عن استماعه إلى إحدى "الملحميات الأدبية" لمصطفى كامل أو "المعلقات الشعرية" لسارية السواس، وكل هذا في نفس الوقت؟؟؟ نعم، معقول، إذ أن سائقينا "Multi-tasking" كما يقال؛ يعني متعددوا المهام.
ودعوني في هذه المرحلة أقف قليلاً عند الملحميات الشعرية التي يفنش السائقون ومرؤوسهم من "الكنتروليّة" بها آذان الركاب، وهي لا تزيد على كونها مجموعة من الأغاني الرخيصة التي لا تخلو من فحش في القول وإنحطاط في مستوى المضمون والمستوى اللغوي، بل قد يتضمن بعضها كلاماً فاحشاً صريحاً أو شتماً للذات الإلهية—أستغفر الله وأتوب إليه--، ومن المعلوم بأنه يجب فتح "الكاسيت" الذي يصخب بتلك الأغاني بصوت عالٍ جداً حسب تقاليد السائقين و"الكنتروليّة"، ومرة أخرى فالويل لمن سولت له نفسه أن يطلب من "الكنترول" خفض الصوت فضلاً عن إغلاقه، فالجواب جاهز، إذ يستخدمه "الكنتروليّة" في عدة مواضع، فإذا طلبت منه تخفيف السرعة أو خفض صوت "الكاسيت" أو إطفاء سيجارته أو أن يطلب من أحدهم إطفاء سيجارته، فسرعان ما "يعالجك" بسيفه قائلاً: "إللي مو عاجبه يوخذله تكسي طلب أريحله".
وهذا غيض من فيض، فهناك الكثير من التصرفات الشائنة التي تحدث كل يوم في خطوط المواصلات تلك والتي لم أتطرق إليها لضيق الوقت ورفعة مقام إخوتي القرّاء، ولكن السؤال الذي ينبغي أن نسأله هو "إلى أين تأخذنا تلك "الباصات"؟" فهل هي بصورتها تلك مؤهلة لتأخذنا إلى منازلنا وأماكن أعمالنا؟ أم أنها تأخذنا في كثير من الأحيان إلى حتفنا؟ فكم نشهد من حوادث تودي بالأرواح والممتلكات نتيجة إنعدام الشعور بالمسؤولية لدى تلك الفئة الطائشة من السائقين فضلاً عن غياب الوقاية و لا أقول "الجباية" من الجهات المختصة وأولها مديرية ترخيص السواقين والمركبات في مديرية الأمن العام. وفي هذا السياق، فقد كتبت سابقاً لأخي عطوفة الباشا حسين المجالي مدير الأمن العام وعطوفة أمين عمّان السابق المهنس عمر المعاني حول إقامة دورات تثقيف "إجبارية" لسائقي "الباصات" والحافلات ومحصلي الأجور كشرط مسبق لمزاولة هاتين المهنتين، ولكنني لم أتلق رداً شافياً حول تلك المسألة حتى هذه اللحظة.
ولعليّ أختم مقالتي بموقف حصل لي قبل بضع سنوات عندما إلتقيت ذلك الشاب السويدي الأربعيني في إحدى الفنادق في مدينة العقبة، وأظنه مخرجاً تلفزيونا لدى إحدى محطات التلفزة في بلده، فكان من بين الأسئلة التي وجهتها له: "ما هو نوع السيارة التي تقودها؟" وكان هذا من باب الفضول لا غير، وكم تعجبت من رده حين قال بأنه "لا يملك سيارة منذ عشر سنين"، فسارعته بالسؤال، "وكيف ذلك؟"، "لا يعقل ذلك"، فتعجب هو بدوره وقال: "لدينا وسائل مواصلات عامة محترمة ومريحة فلا نحتاج فعلياً لشراء السيارات الخاصة للتنقل"..."محترمة" و"مريحة"...بقيت تلك الكلمات تقرع أبواب عقلي، ولم أنسها والله منذ ذلك الوقت، إذ أول ما خطر ببالي عند سماع تلك الكلمات هو وسائل المواصلات لدينا، ولا تظنوا بي السوء فأنا أريد أن أقول بأن وسائل النقل العام لدينا أكثر "راحة" و"احتراما" من وسائل النقل العام في السويد، و"حسبنا الله ونعم الوكيل".
وهكذا تنتهي حكايتنا مع "باصات" الزرقاء-عمّان والتي قد تتجاوز هذا الخط لتشمل معظم خطوط الباصات في مملكتنا الحبيبة، فلعلّ تلك "الحدوته" تلقى آذانا صاغية لدى الجهات ذات العلاقة، بحيث تعمل على تأمين مواصلات "محترمة" و"مريحة"، وهو أمر يعد من أبسط حقوق مواطنينا البسطاء من مرتادي وسائل النقل العام والذين يشكلون السواد الأعظم من السكان.
ولعل في هذا القدر كفاية وشفاء لما في الصدور...
محمد منصور بن شاوي الديري