على قبر الحجة مِزنه
- الخميس-2011-06-03 07:41:00 |
أخبار البلد - كنت أقف وعين الفضول تكاد تفضحني ، هذا الرجل العجوز صورته في ذاكرتي ما زالت لرجل شديد البأس ، آه من هذه الدنيا حين تكشفنا أمام ذاكرتنا القديمة ، وتعبث بنا كحصى مهملة على طريق تدوسه أقدام الذاهبين والآيبين بلا أدنى اهتمام، عيني ما زالت تجوس في المكان ، أليس هذا الكهل هو ذاك الفتى اليافع الذي كان يفرد جناحيه كطاووس متباه؟ يا لهذا الزمان العجيب ، كل هذا العنفوان غدا ظلالا باهتة ولم يبقَ منه إلا بقايا شارب كث.
نودع جعفر وزيد يشيعنا وعبدالله يرقب خطانا ، نسلم أقدامنا للطريق ، الموت مهماز يدفعنا فنسرع الخطى ،وركب الحجة مزنة يسبقنا ولا نكاد نلحقه ، وكأنها تقول لنا : إني إلى خير مقبلة فوسعوا من خطاكم.
تبتلعنا المقبرة ويتوزع المشيعون بين باحث عن قبر عزيز وآخر يحمله الفضول لتتبع (نصائب) القبور وهو يوزع الرحمات ، الأشجار المبثوثة بين القبور بغير انتظام تبعث فينا رعشة الموت ، تضيق الدائرة على القبر فتتعالى الأصوات شيئا فشيئا معلنة البدء بطقوس الرحيل ، أدرت وجهي وكلي فضول لأكشف هيئات المتحلقين ،أحدهم ينظر والوجوم يرسم خطوطا واضحة على وجهه ، آخر يعبث بمسبحته وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة ،وثالث يقف بأناقة وخيلاء وحذاؤه الملمع يلامس قبرا تغيرت معالمه .
شعرت بتقزز ، وقلت في نفسي : أفي هذا المكان ؟ ازددت حنقا ، وكدت أخرج عن هدوئي ، وراودتني رغبة بصفع هذا الغرور والخيلاء ونحن في منزلة من منازل الآخرة ، حوقلت مرارا ، وتذكرت وأنا في دوامة انفعالي قول العزيز الجبار :( ألهكم التكاثر ،حتى زرتم المقابر....) أدرت وجهي نحو دائرة المشيعين ، وقلت في نفسي : نعم ، حتى زرتم المقابر.
تنتهي الطقوس ، الخطيب يلقى موعظته التي جذبتنا حتى حافة الآخرة ، وجعلتنا نقف وقد خلعنا ثوب كبرياءنا المزعوم ،ولم ينسَ أن يثني على الراحلة وعلى جميل سجاياها ، فهي العابدة ، وهي كافلة الأيتام ، ولها يد خير لمثل هذا اليوم ادخرتها.
البعض ينظر للقبر بعين باكية ، وآخرون يشعرون بنوع من الرضا لأنهم أدوا واجبا اجتماعيا ، ينسحب الجميع فرادى وجماعات ، الدنيا تجذبنا ، فتعود الأصوات لترتفع تارة وتخفت تارة ثانية ، أحدهم يمشي بحذر حتى لا يدوس قبرا دارسا ، وثانٍ يقتفي أثر رفيقه ، وثالث ما زالت خيلاؤه تركبه فحذاؤه الملمع لا يأبه لما تحته ، راقبت هذا المشهد ، انتفخت أوداجي ، وكدت من جديد أصفع هذا الكبرياء، ولكن المعري هذه المرة أنقذني من سورة غضبي ، حين تذكرت قصيدته:
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
سر إن أسطعت في الهواء رويداً لا اختيالاً على رفات العباد
وضعت أقدامي على عتبة بوابة المقبرة ، ونظرت خلفي وقلت : رحمك الله أيتها المرأة الطيبة ، فقد كنتُ صبيا صغيرا تقودنا أقدامنا الغضة في شارعنا القديم إلى تلك الزاوية ، وكان وجهك يثير فينا الفرح ، فننظر بقلوبنا الصغيرة فترتسم الابتسامات على شفاهنا راضين ،فعسى أن يبدلك الله خيرا ، وعسى أن يكون لكِ من اسمك نصيب.