يعرضون في الأفلام الأجنبية، أماكن مظلمة مخيفة في قيعان المدن، حيث تعرض بائعات الهوى أنفسهن لطلاب المتعة مقابل الأجر. وتقف هؤلاء على نواصي الشوارع بملابس مفرطة في الكشف، وتزيُّن ملفت بالمساحيق، فلا تخطئهن العين. والفكرة، أن الراغب يعرف أماكن بيع الهوى المرخّصة في مدن الغرب، ولا يجد هذه السلعة في كل مكان وكيفما اتفق.
وقد سمعنا كثيراًعن بيع الهوى (بالتعبير العربي المخفف) على قارعة الطريق هنا أيضاً، في رابعة النهار وفي شوارع معينة يُفترض أن يعبرها القادرون على دفع الثمن. وأقول الحق: لم أصادف طوال سنوات كثيرة بائعة هوى على رصيف، حتى اعتقدتُ بأن الآخرين يبالغون. وأحياناً، كنتُ أعتقد أن الباحثَ القاصد هو الذي ينتبه إلى بائعات المتعة هاتيك، على قاعدة: أنت ترى ما يعنيك.
لكنّ ذلك تغيرّ أخيراً، حيث كثيراً ما ينبهك أحد إلى بائعة هوى توقف السيارات الخصوصية، ثم تستقل واحدة بعد المساومة جهاراً نهاراً، وفي أماكن غير متوقعة. أما آخر شيء صرت أصادفه كثيراً، فأسراب فتيات متسربلات بملابس سوداء ضافية وأغطية رؤوس سود، ممن يجبن الشوارع في الأحياء السكنية، وتقلهن السيّارات في الصباح، وعند الظهيرة وفي المساء. وقد رأيت الرذيلة بهذا السُّفور في حّينا لسبب غريب حقاً: أنه مجاور لإحدى مؤسسات التعليم العالي الرفيعة، حيث يكثر المقيمون من أصحاب السيارات الفارهة ذوات اللوحات الأجنبية، ممن أمّوا بلادنا ليتعلموا فيها ويتأدبوا!
أما آخر فَصل، ففتاة صغيرة السنّ، ضئيلة الجسم، سوداء الملابس كما وصفتُ، أوقفت سيارة مارة أمام المنزل مباشرة على الجانب الآخر من الشارع. وقد توقف السائق الذي لم تكن سيارته فخمة على كل حال، ولا أجنبية اللوحة، على يسار الشارع وبعكس السير من دون أن يهمّه شيء، واستمرّ التفاوض وقتاً وهما يشيران بأيديهما ويتضاحكان، بينما تبطئ السيارات الأخرى السير ويحدق سائقوها باستغراب في الواقفين على يسار الطريق، فلا يلقيان بالاً. وقد استفزتني وقاحة المشهد، فتعمدت هبوط الدرجات وكأني أقول: نحن هنا! فانتبه المتفاوضان ورمقاني دونما اكتراث، حتى فشلت الصفقة فيما يبدو، وأعطى الزبون بطاقته للبنت التي دستها في طيات ثوبها، ومضت واثقة الخطو أسفل الطريق.
لا يعنيني أن أخوض هنا في مسألة الحريّة، وأعرف أنّها معيارية وإشكالية، لكنّ فكرة بيع الجسد لم تكُن يوماً محببّة، حتى لدى المجتمعات والأفراد الأكثر إيماناً بالحرية وتنظيراً لها. ولذلك، تباعُ الرذيلة في المجتمعات الحرة في أماكن بعيدة مخصوصة، ولا يُسمح لها بأن تؤذي ذائقة المجتمع وتتقحمه كله رغماً عنه. أما الجانب العملي الذي يجعلنا معنيّين مباشرة، فهو أننا لا نتصور أن تسير بناتنا في شوارع أحيائنا السكنية التي أصبحت توسم بأنها مشبوهة، حيث يمكن أن تتوقف سيارات السَّمِجين من أمثال الواقف على يسار الطريق، ويتحرش راكبوها بهن بلا خجل ولا وازع من ضمير.
على العموم، لم أتصور بعد هذا العمر والشّيب أن أشاهد ما كنتُ أسمع عنه وأنكره، وهو يعرض نفسه بكل هذه الصلافة والصفاقة وبهذا التكرار، في الحيّ وأمام المنازل وفي وضح النهار هكذا بلا تكلف عناء طلب السّتر. وإذا كان الناس أحراراً في داخل بيوتهم وخصوصياتهم، فليس من الحريّة في شيء اغتيال الذوق العام في الشوارع العادية وسط أحياء المدن. كما يثير أقصى الاستغراب هذا الاستعمال المسيء للملابس التي ترمز إلى العفّة والحرص لهذه الغايات بحيث أصبحت الأمور تختلط علينا.
أمّا أسوأ الأشياء جميعاً، فهو وضوح هذه الظاهرة حول مؤسسات العلم بشكل يتخطى كل الحدود، ويسيء إلى فكرة الحرَم الذي تمثله هذه المؤسسات، وتحت شعارات السياحة التعليمية أو أي سياحة، أو حريّة ضيوف البلد وإكرام وفادتهم واحترام سفاراتهم. وعلى الأقل، ومع التحفظ على فكرة الاتجار بالجسد من حيث المبدأ، فليذهب هؤلاء إلى علَب الليل والأماكن التي ترتبط تاريخياً بهذه الأمور، وليبتعدوا عن الشوارع التي أصبحت فيها ذائقة المجتمع مستباحة هكذا، في أي مكان وأي وقت.
لقد أصبح فساد الذوق بالغ الصفاقة، حيث يباع "الهوى" المتجول على قارعة كل الطريق.
"بيع الهوى" على الطريق..!
أخبار البلد -